سلام بالقوّة.. رهان أميركي–إسرائيلي على لبنان المتعب فهل يستسلم؟

خلال أشهر قليلة فقط، انتقلت اللغة الأميركية من خطاب “تشجيع” الدولة اللبنانية على تنفيذ خطة نزع سلاح “حزب الله” إلى لغة أقرب إلى تبنّي المعادلة الإسرائيلية: السلام يمكن فرضه بالقوة. في بدايات الصيف، أرسل المبعوث الأميركي توم برّاك إشارات دعم إلى بيروت، وتحدّث عن “مصافحة متبادلة” ولو وهمية، بين لبنان وإسرائيل، فالدولة اللبنانية كانت تنخرط في مسار ضبط سلاح الحزب، مقابل انسحاب إسرائيلي تدريجي من المواقع الخمسة داخل الأراضي اللبنانية ووقف الغارات. لكن شيئاً من ذلك لم يتحقق، وتحوّل التفاؤل إلى لهجة تشكيك واتهام للبنان بالعجز عن تنفيذ أي التزام.
هذا التحوّل لم يقتصر على الخطاب، بل شمل أيضاً الأسماء التي تمسك بالملف. وجوه أميركية وإسرائيلية جديدة دخلت على خط “إدارة” الأزمة اللبنانية، لكن الفكرة الجوهرية بقيت نفسها: الضغط العسكري والسياسي المتراكم قد يدفع الدولة اللبنانية، ورأس هرمها تحديداً، إلى الاختيار بين طريقين لا ثالث لهما: إما القبول بصفقة شاملة تتضمن ترتيبات أمنية وتطبيعاً كاملاً مع إسرائيل وربما الالتحاق بركب “اتفاقيات أبراهام”، وإما الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة لا يملك لبنان مقوّمات تحمّلها.
في المقلب الفرنسي، لا تبدو باريس مرتاحة لهذا النهج، وإن كانت تشارك واشنطن شكوكها حيال أداء الجيش وحدود ما يقوم به تجاه “حزب الله”. فرنسا، التي قدّمت نفسها راعياً دولياً للاستقرار اللبناني، تريد من الجيش أن يفعل أكثر، لكنها في الوقت نفسه تخشى أن يتحوّل الضغط الأقصى إلى شرارة انفجار داخلي تُسقط ما تبقى من توازن هشّ في البلاد. لذلك، تدفع باتجاه مقاربة أقلّ صدامية، تُمسك العصا من وسطها: تشجيع الدولة على الحركة، من دون تدمير ما بقي من مؤسساتها.
في العمق، يرى المراقبون أن لبنان يقف أمام معادلة شبه مستحيلة: إسرائيل تقول “انزعوا سلاح حزب الله ثم ننسحب”، الدولة اللبنانية تردّ “انسحبوا أولاً “، و”حزب الله” يلوّح بأنّ سلاحه غير مطروح للتفاوض إلا ضمن صيغة انسحاب شامل وضمانات سيادية صلبة. أما الأميركيون وسائر المجتمع الدولي فيربطون أي مساعدة حقيقية للبنان بشرط واحد ألا وهو “سلاح الحزب”. هكذا، يتحول البلد إلى ساحة اشتراطات متقاطعة، فيما اقتصاده المنهار وحدوده المشتعلة لا تحتمل رفاهية الانتظار.
في هذا السياق، يبدو أنّ الخطر الأكبر لا يكمن فقط في احتمال اندلاع حرب شاملة، بل في ترسيخ معادلة جديدة عنوانها: لبنان مساحة ضغط لا مساحة تسوية. فكلما ازداد الرهان الخارجي على “تطويع” الداخل بالقصف والعقوبات، تآكلت أكثر فكرة الدولة كمرجعية وحيدة للسلاح والقرار. ومع الوقت، يُخشى أن يتحوّل الجيش نفسه إلى طرف محاصر بين غضب شارع يعتبره متواطئاً إذا تحرك ضد “حزب الله”، وضغط دولي يعتبره مقصّراً إذا لم يفعل. هذه الهوّة بين ما يُطلب من المؤسسة العسكرية وما يمكنها تحمّله فعلياً، تفتح الباب أمام مزيد من التصدّع في بنية الدولة بدلاً من إعادة ترميمها.
إلى جانب ذلك، لا يمكن قراءة ما يجري في لبنان بمعزل عن المشهد الإقليمي الأوسع، الذي يتمثل بمفاوضات غير معلنة مع إيران، ترتيبات في غزة، وحسابات إسرائيلية مرتبطة بالغاز في المتوسط والحدود مع سوريا. في لحظة كهذه، يصبح لبنان ورقة ضمن سلّة ملفات، لا أولوية قائمة بذاتها. وهذا يعني أن أي “عرض” قد يُقدَّم للرئاسة اللبنانية لن يكون خالصاً لمصلحة لبنان، بل جزءاً من صفقة أوسع تُرسم في العواصم الكبرى. هنا تحديداً تبرز المعضلة: “هل يستطيع لبنان المنهك اقتصادياً والمُشتَّت سياسياً أن يفرض شروطه في معادلة تُدار فوق رأسه؟ أم أنّ أقصى طموحه سيكون فقط تقليص الأضرار وحماية ما تبقّى من كيانه من دون أن يتحوّل إلى ثمن جانبي على طاولة التسويات الكبرى؟”
بين “سلام بالقوة” و”سلام بالتفاهم”، يدفع لبنان ثمن اختبار خطير على أرضه.. اختبار لإرادة الأميركيين والإسرائيليين في تغيير قواعد اللعبة، ولقدرة الدولة اللبنانية على الصمود بين مطرقة الضغوط الدولية وسندان توازنات الداخل. وحتى الآن، كل ما تبدو عليه الصورة هو أننا أمام مأزق مفتوح، لا غالب فيه ولا مغلوب، بل بلد صغير يُساق مرة جديدة إلى قلب معركة أكبر منه.ويبقى السؤال الاهم عن المرحلة المقبلة في ضوء قرار رئيس الجمهورية جوزاف عون تعيين السفير السابق في واشنطن سيمون كرم رئيسًا للوفد اللبناني في آلية “الميكانيزم” ما اعتبره البعض خطوة يفترض أن تجمّد قرار التصعيد الاسرائيلي أقله لفترة زمنية محددة، في انتظار اتضاح صورة الوضع في المنطقة ككل.
مصدر الخبر
للمزيد Facebook





