آخر الأخبارأخبار محلية

خيارات حزب الله بين مسار الدولة وتحولات المنطقة!

قبيل زيارة قداسة البابا ليوم الرابع عشر الى لبنان، طرح رئيس الجمهورية جوزاف عون في خطابه الاخير معادلة سياسية جديدة أعادت تحديد اتجاه الدولة في ملف الحدود والتفاوض مع إسرائيل. إذ لوّح بإمكانية فتح مسار تفاوضي غير محدود بسقوف الاتفاقات السابقة مع إسرائيل، شرط أن تبادر “تل أبيب” الى خطوات عملية تبدأ بالانسحاب وترسيم الحدود ولا تنتهي بملف الأسرى.

هذا الإعلان، بما يحمله من تحوّل في لغة الدولة، لم يكن معزولاً عن مسار يُبنى بهدوء منذ أسابيع، ظهر أحد مؤشراته في طرح اسم السفير سيمون كرم لعضوية اللجنة المعنية بإدارة الميكانيزم التفاوضي مع الجانب الإسرائيلي، في خطوة أكّد القصر الجمهوري أنّها تحظى بموافقة رئيس مجلس النواب نبيه بري، ما يعني أن القرار ليس تفصيلاً، بل جزءاً من معادلة أكبر تتحرك على مستوى الدولة.

في الوقت نفسه، اختار رئيس الحكومة نواف سلام أن يضع سقفاً واضحاً للّحظة السياسية، حين أكد أن الحكومة لن تسمح بانزلاق البلاد إلى مواجهة عسكرية جديدة، ما أضفى على المشهد الداخلي إشارة واضحة إلى رغبة الدولة في منع أي خطوة قد تُخرج الأمور عن السيطرة. ومع هذا التموضع، بدا أن مسار الرئاسة والحكومة يسيران في اتجاه واحد، الأمر الذي وضع “حزب الله” أمام واقع جديد تتقاطع فيه رسائل الداخل والخارج.

فالمؤسسات الرسمية تتصرف على أساس أن المرحلة تستدعي تهدئة الإيقاع الأمني، فيما تواصل إسرائيل توسيع هامش تهديداتها كلما ضاق المجال أمام المناورة السياسية. وعلى خط موازٍ، تتقدّم في الداخل نقاشات تحمّل “الحزب” مسؤولية انسداد الأفق في المشهد الداخلي، في وقت يضيف فيه تبدّل مواقع بعض القوى الإقليمية مزيداً من الحساسية على المشهد العام، بينما تميل طهران إلى مقاربة أكثر حذراً، ما يجعل حسابات “الحزب” محكومة بتوازنات أدق مما كانت عليه في مراحل سابقة.

أمام هذا المشهد المعقّد، يجد “الحزب” نفسه مضطراً إلى البحث عن خيارات متعددة تختلف في مستوى المخاطرة والنتائج. وبحسب مصادر سياسية مطّلعة فإنّ أحد هذه الخيارات قد يتمثّل بالمضي في سياسة امتصاص الضغوط وتمرير المرحلة بأقلّ قدر ممكن من الكلفة، سيّما وأن دخول الرئيس بري على خط المعالجة يوحي بأن هناك قراءة مشتركة لحساسية اللحظة وما يمكن أن تجرّه أي خطوة غير محسوبة. وفي مقابل هذا الخيار، ترى المصادر أن احتمال الرد العسكري المحدود لا يزال مطروحاً على الطاولة كوسيلة لتثبيت قواعد الاشتباك، رغم أنه، وفق المصادر، يحمل خطر الانزلاق إلى مواجهة أوسع قد تطال بيئته بشكل مباشر وتعيد مشهد الاستهداف المفتوح بعيداً عن أي قدرة على ضبط الإيقاع.
وفي سياق موازٍ، يبرز خيار آخر يقوم على تفعيل الشارع ورفع مستوى الاعتراض الشعبي على مسار التفاوض، بما يتيح “للحزب” توظيف الغضب المتراكم كأداة ضغط على الحكومة من دون الذهاب إلى مواجهة مباشرة. أمّا الخيار الأقل صداماً، فيندرج في إطار إصدار موقف سياسي يعلن رفض التفاوض المباشر مع إسرائيل من دون تحويل هذا الإعلان إلى خطوات عملية، الامر الذي، بحسب المصادر، يسمح “للحزب” بإيصال رسائله من دون تحويل اللحظة إلى نقطة اشتباك.

ورغم تعدد السيناريوهات، ترى المصادر أن احتمالات الذهاب نحو مواجهة عسكرية ضعيفة في هذه المرحلة. إذ إنّ “حزب الله” يدرك أن أي خطوة من هذا النوع لن تكون ممكنة من دون ترتيبات مسبقة مع طهران، فيما تشي المؤشرات بأن إيران تميل حالياً إلى إبقاء الوضع ضمن حدود التوتر المحسوب بدلاً من الانزلاق إلى صدام مفتوح. كما أن قراءة “الحزب” لموازين القوى الحالية تدفعه إلى الحذر، إذ يُرجّح أن يؤدي أي تصعيد خارج الإطار المدروس إلى نتائج عكسية تُضعف موقعه بدل أن تمنحه مساحة إضافية للمناورة.

ورغم أن الكثير من النقاش الدائر يتركز على موقف “الحزب” من التطورات الجارية، إلا أنّ جوهر اللحظة السياسية يتجاوز حساباته المباشرة ليطال قدرة الدولة نفسها على انتزاع مكسب فعلي من المناخ القائم. وبحسب المصادر، فإنّ مجرّد الإعلان عن الاستعداد للانخراط في مسار تفاوضي أوسع لا يعني تلقائياً أن الطرف المقابل سيتجاوب، خصوصاً في ظل بيئة إسرائيلية داخلية مضطربة تجعل أي خطوة باتجاه التهدئة مخاطرة سياسية لرئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو. وفي هذا الإطار يتحرك لبنان بمنطق الحدّ من الخسائر قدر الإمكان، عبر تبريد الساحة وانتزاع الذرائع التي قد تُستخدم لرفع مستوى التصعيد، مع ترك المجال للقوى الدولية لتحديد الجهة التي تُعرقل الوصول إلى تهدئة مستقرة تُخرج البلد من دائرة الاستنزاف. ومن هنا يمكن فهم التقاطع بين مواقف الرئاسات الثلاث باعتباره محاولة لإدارة المرحلة بأقل كلفة ممكنة، وليس سعياً لفرض معادلة جديدة في ظل ميزان قوى لا يسمح بترف الخيارات الواسعة.

في النهاية، يجد لبنان نفسه أمام مرحلة دقيقة تتراكم فيها الضغوط وتتقلّص فيها الخيارات، بحيث يضطر للتقدّم وفق منطق إدارة الأزمة لا وفق ما يطمح إليه من حلول. وهذا الواقع يفرض على بيئة “حزب الله” التعامل مع توازنات سياسية مختلفة، بما يحمله ذلك من تحديات داخلية وخارجية. ومع محدودية القدرة على تغيير المشهد في المدى القريب، تبقى البلاد معلّقة على ما ستشهده الساحات الإقليمية والدولية من تبدلات قد تعيد رسم خطوط اللعبة وتحدد شكل موقع لبنان في المرحلة المقبلة.


مصدر الخبر

للمزيد Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى