منوعات

كيف أنقذت نساء عربصاليم بلدتهن من أزمة النفايات؟

باسكال عزار ” جريدة النهار”

في القصة عبرة، ولعلّ في ما تقصّه “النهار” على قرائها اليوم خير عبرة تتعظ منها دولة أغرقت مواطنيها بالنفايات، ويتعظ منها المواطن الذي ينشد خيره والخير العام. وتعود القصة إلى العام 1995، عندما كانت زينب مقلّد، أستاذة الصفوف الثانوية في ثانوية النبطية، تتحسّر على وضع بلدتها #عربصاليم الغارقة أحياؤها بأطنان من النفايات التي تفوح منها الروائح الكريهة وتتجمع حولها القوارض والجرذان وتحوم بسببها الذباب والحشرات مقتحمة المنازل ناشرة سمومها وإزعاجها. تشبه عربصاليم في الأمس قرى لبنان ومدنه وأحيائه اليوم، لكن كيف تمكنت مقلد من إنقاذ بلدتها من أزمة النفايات رغم عبء الاحتلال الإسرائيلي وتردي الظروف الأمنية وتقاعس الدولة عن القيام بدورها، لتصبح البلدة الوحيدة اليوم التي لا تعاني أزمة النفايات؟

“شو بدكن بالزلمي لي محططين علي”12167608_933612040043738_314728990_n_903680_large IMG_0966_387981_large IMG_0967_514723_large

توضح مقلد أن “عربصاليم في ذلك الوقت لم يكن فيها بلدية ناشطة، لكون رئيسها توفي ولم يبق فيها إلا كاتب يدوّن الأمور الضرورية وسائق لديه سيارة يعمل من دون رقابة وخصوصاً أن أمور البلدية قد أوكلت إلى المحافظ. كان يفترض بالسائق أن يتولى أمر نقل النفايات لكنه لم يكن يفعل. جمعت بعض السيدات وقلت لهن لا يجوز أن يبقى الوضع على ما هو عليه فلنشكل وفداً وننقل شكوانا إلى المحافظ عله يساعدنا. وهكذا كان قمنا بزيارة المحافظ وأطلعناه على المشكلة، فاستغرب الخبر وقال إنه يسأل دائماً عن أحوال البلدة وبحسب علمه كل الأمور تسير على ما يرام”. لم تحسّن زيارة المحافظ أحوال البلدة إلا لعشرة أيام قام خلالها السائق بنقل النفايات ثم ادعى أن السيارة تعطلت لتعود الأزمة من جديد. قمنا مجددا بزيارة المحافظ لكن الزيارة الثانية لم تكن كالأولى فقد انتهرنا بالقول: “شو بدكن بالزلمي لي محططين علي” ولم يكلف نفسه عناء زيارة البلدة لمعاينة الوضع والتأكد بنفسه. بعد هذه الزيارة أصبحت على يقين أن أحداً لن يعيننا وعلينا إيجاد الحل بأنفسنا”.

فكّرت مقلد ملياً قبل الخروج بالحل “كنت مع مروري بأحياء البلدة أرى الكراسي البلاستيكية أو الكراتين تملأ حاويات النفايات فيما النفايات العضوية على الأرض. فكرت في نفسي أنه لو جمعت كل سيدة النفايات الصلبة كالبلاستيك والكرتون والزجاج في منزلها ورمت فقط بقايا الطعام لانخفضت كمية النفايات في الشارع. فجمعت السيدات مجدداً وكن نحو 20 سيدة، قلت لهن أن أحداً لن يجد الحل وعلينا أن نجد الحل وننفذه بأنفسنا. وطرحت عليهن فكرتي بأن تبقي كل سيدة النفايات الصلبة في منزلها على أن نرمي فقط النفايات العضوية في الحاويات التي كان سائق البلدية كلّ فترة يمرّ لجمعها، فوافقن على الفكرة وكنا نجتمع كل فترة في المنازل أو في الحسينية أو الجامع ونلتقي ربات بيوت جدد في كل مرة ونشرح لهن الفكرة وارتفع عددنا وبدأت كل واحدة منا بفرز نفاياتها في المنزل وتحث جارتها أو قريباتها على القيام بالمثل”. وأضافت “لم يكن لدينا بنى تحتية لتصريف النفايات، ولم نكن جمعية منظمة وليس لدينا المال أو التمويل أو الدعم، بل كنا مجموعة سيدات لدينا القناعة بضرورة حل الأزمة والإرادة للإستمرار”.
دفعت هذه الإرادة نساء عربصاليم إلى “تنظيم حملتي نظافة في البلدة، كنا نقوم بتنظيف الشوارع وكنسها كما أزلنا النفايات المتكدسة عند مدخل إقليم التفاح، ونظراً للحركة الغريبة قامت إسرائيل بقصفنا، وقد نشرت “النهار” مقالاً عن هذه الحادثة بعنوان “حملة نظافة تحت وقع دوي القنابل” لكننا لم نتراجع عن أداء مهماتنا وكنا بين فترة وأخرى نقيم حملات نظافة”.

هكذا تمكنت نساء عربصاليم من تغيير الواقع

بعد ثلاثة أشهر من الفرز من المصدر “تكدست #النفايات الصلبة في المنازل، أخذت أفكّر بحيرة عن طريقة لتصريفها، فبدأت البحث عن معامل إعادة تدوير، وكتبت في المقسّم 19 في “النهار” علّني أجد من يساعدني. فاتصل بي المهندس هاني أبي فاضل وعبر عن إعجابه بنا وبعزيمتنا رغم الظروف الأمنية السيئة، وقال إنه سيساعدنا من خلال تعريفنا إلى مساعدة المقيم العام للأمم المتحدة UNDP، فشكرته ودعوته لزيارتنا وقد قام فعلاً بهذه الزيارة واطلع على كل ما نقوم به”.

لم تتوقف مقلد خلال هذه الفترة عن البحث عن معامل لإعادة التدوير “لجأنا إلى الدولة لكن ويا للأسف حتى وزارة الصناعة لم ترشدنا إلى مصانع من هذا النوع. في انتظار الحل، قدّمت حديقة منزلي كما قدمت سيدة أخرى قطعة أرض تملكها وبدأنا نضع فيها النفايات المفروزة. لكن ذلك لم يكن حلاً ملائماً فالجيران انزعجوا منا لأننا حولنا محيط منزلهم إلى مستودع للنفايات، مع أنها كانت نفايات صلبة موضبة ومفروزة”.

بعد مسعى فيه الكثير من الجهد “تعرفنا إلى مصنع لإعادة تدوير البلاستيك في صور فبدأنا ننقل إليه البلاستيك، كما تعرفنا إلى مصنع للزجاج في الشويفات كنا نرسل له كل الزجاج، كما تعرفنا إلى من يأخذ منا المعادن، أما الورق والكرتون فكانت بعض السيدات تستخدمها كوقود للصاج”. وأضافت “ارتفع عددنا فازدادت وتيرة العمل، وكنا لا نزال نكدس النفايات لدينا فلا أرض لنا ولا مال ولا سيارة أو شاحنة لجمع النفايات ونقلها، فاستأجرنا سيارة وكنا نعطي سائقها 5000 ليرة لبنانية في الساعة، وقسّمنا عربصاليم إلى أحياء وتولت كل سيدة منا مسؤولية حي فترافق السائق لجمع النفايات من المنازل”. أما عن ثمن النفايات التي كانت تتقاضاها من معامل التدوير، فقالت: “كانت زهيدة جدا ولا تكفي لتغطية نفقات العمل ولا زلنا حتى اليوم نعاني نقصاً في المال”. وأضافت “من جهة أخرى وفى السيد هاني بوعده فعرفنا إلى سكرتيرة المساعد المقيم لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي والتقينا لجنةأعجبت بعملنا وقررت منحنا هبة بقيمة 29 ألف دولار أميركي فحصلنا بهذا المبلغ على قطعة أرض من مشاعات البلدة وقمنا باستصلاحها لأنها كانت وعرة جداً. فرشنا أرضها بالرمل إذا لا إمكانية لدينا لصبها بالإسمنت، وبنينا هنغارات ووضعنا حدوداً وبوابة لها وبدأنا بجمع النفايات المفروزة فيها وكانت شاحنات المصانع تأتي إليها لنسلمها النفايات. كما قمنا بشراء شاحنة صغيرة وقديمة لجمع المفروزات ووظفنا سائقاً”. أما تأسيس الجمعية “فقد تمّ لأننا وجدنا أنه ضروري إذا كان علينا التقدم من الدولة أو الجهات المانحة للحصول على مساعدات، وهكذا حصلنا على علم وخبر في العام 1998 أي بعد 3 أعوام من العمل، وقد حملت الجمعية اسم جمعية نداء الأرض”.

هكذا تمكنت نساء عربصاليم من تغيير الواقع الذي خلقه تردي الخدمات التنموية وتقاعس الدولة والمحافظ عن أداء مهماتهم “باتت قريتنا نظيفة جداً وتحسّن وضعنا كثيراً والأهم أننا اكتسبنا ثقافة بيئية وعلّمنا نفسنا بنفسنا وها نحن اليوم بمنأى عن أزمة النفايات التي تعانيها باقي المناطق”. وأضافت “نحن نعاني نقصاً في التمويل، نحن جمعية لا تتوخى الربح، لا نتقاضى بدل أتعابنا وربما أخطأنا لأننا عوّدنا الإهالي على تقديم هذه الخدمة بدون تقاضي ثمنها. المهمّ أنه على الدولة أن تشرف على هذا الموضوع، فمهما بلغت الجمعيات حجماً ونفوذاً لا يمكنها أن تتولى الأمر بمفردها، فهذا في الأساس عمل البلديات وستكون قادرة على تولي القيام بهذه المهمة إن أعطتها الدولة المال. فلدى البلدية فريق عمل وسائق وقدرة لتوظيف سائق وشراء المستوعبات عكسنا نحن”. وأضافت “على الدولة أن تدعم الجمعيات التي تقوم بالفرز لكي تتمكن من الإستمرار. كما عليها تحديد سعر للمفروزات لأن المعامل تظلمنا بما تدفعه ولا يمكننا التأفف لأننا بحاجة إليها. وعلى الدولة أن تفرض من طريق البلدية ضريبة على المنازل، إذ يمكن البلدية أن تفرض ضريبة على المنزل الذي لا يقوم بالفرز ويسلمها نفاياته غير مفروزة، في حين أن لا قوة لنا كجمعية بفرض الضرائب والفرز على المنازل، كل ما في استطاعتنا العمل عليه هو الإقناع”.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى