آخر الأخبارأخبار محلية

يا ما أحلى الرجوع إليه

قد أكون واحدًا من بين ملايين اللبنانيين المغتربين، الذين قرروا أن يزوروا وطنهم الأمّ بالتحديد وليس أي مكان آخر. 
هؤلاء اللبنانيون، وأنا واحد منهم، لم يتركوا أرض الوطن بطيبة خاطر، بل أُجبروا على تركه. الأسباب كثيرة، منها ما هو سياسي، ومنها هو اقتصادي، ومنها قد يكون بدافع التفتيش عن وطن يُحترم فيه الانسان، وتُصان فيه كرامته.

 

 
وبغض النظر عن كل هذه الأسباب، وهي مبررة في نظر كثيرين، فإن ما يشدّ اللبنانيين إلى أجمل البلاد أكثر بكثير من هذه الاسباب التي دفعتهم إلى الرحيل والهجرة. 
هو شعور لا يعرفه إلا من اقتلعته الظروف من أرضه وزرعته في تربة غريبة عن تربته. فما أن اقتربت الطائرة من بيروت، التي أطلّت ببهائها وتاريخها وعبقها المشبع بخورًا وصلاة يتصاعد من كنائسها وجوامعها وحسينياتها وخلواتها، حتى انقلب المشهد. 

 

إنه المشهد ذاته يتكرّر. إنها العواطف ذاتها. إنهاء المأساة بحروفها التي تجرح، وبسكونها المخيف. هي الدموع نفسها، ولكنها معكوسة. كانت قبل ثلاث سنوات مجبولة بمسحة حزن، وهي اليوم مسكونة بالفرح والحبور.
بالأمس القريب كان القرار الصعب. واليوم يعود هذا القرار إلى بداياته الحزينة والمؤلمة. 

 

هو ذاك الحنين، الذي لم يفارقني يومًا. هو ذاك الشعور، الذي لا يمكن وصفه بكلمات تبقى مقصرّة في التعبير مهما بلغت بنا مهارة تطويع الحروف بقالب من الاحاسيس، التي تبقى أشدّ وقعًا حين تُجرّد من الظواهر الخارجية. 

 

هذا الشعور هو النبض اليومي لجميع المغتربين أينما كانوا، سواء أكانوا في البرازيل أو في أستراليا أو في كندا أو في أميركا أو في افريقيا أو في الدول الأوروبية وحتى العربية. فالمغترب الموجود جسديًا بعيدًا عن مسقط رأسه ووطن الأجداد والأباء عشرات الآف الأميال يعيش وكأنه لا يزال في لبنان. فلا يسمع أخبار البلاد الموجود فيها لأنه يعتبر نفسه غير معني بها. بل يفتش عن كل خبر يتعلق بالوضع اللبناني. يعرف ما يجري فيه من تطورات ربما أكثر من أي لبناني موجود في موقع الحدث. يريد أن يعرف كل شاردة وكل واردة لها علاقة بالأهل والأقارب والأصحاب والأصدقاء. يتشارك معه أفراحهم وأتراحهم، خصوصًا بعدما قصرّت وسائط التفاعل الاجتماعي المسافات بين الناس أينما كانوا وحيثما وجدوا. 

 

ولكن كل هذا لا يغني عن زيارة الأماكن المجبولة بذكريات الماضي، والمعطّرة بنفحات من نسائم الوديان، والمخصّبة بعبق رائحة الصنوبر المختلطة معه رائحة الزعتر والزيزفون والوزّال والطيّون. فرائحة بلادي، وعلى رغم الروائح الكريهة المتأتية من ملوثات.
فالعودة إلى لبنان، ولو مؤقتًا ولو لزيارة خاطفة تنطبق عليها كلمات أغنية الأخوين رحباني في مسرحية “بياع الخواتم”، وفي “سكتش”: “مرتي وعتني بكير”. وتقول كلمات الأغنية:  
ريما: بكرا حلوة كتير الخطبة بس الجازة
بتبقى صعبة ولو بتشوفو بعد الجازة
أيام التعب والغربة
المجموعة: عارفين ورح نتجوز
ريما: بس الجازة ولاد وهم
المجموعة: عارفين ورح نتجوز
ريما: فيها شغل وزق اْغراض
المجموعة: عارفين ورح نتجوز
عارفين بدنا نتعب عارفين رح نتعزب لكن بدنا نتجوز
حتى نصير نزق اْغراض ونتقاتل مع النسوان
ونلم علينا الجيران ونولع سيجارة
بضهر السيجارة ونقعد على الباب نقول
يا ريت ما تجوزنا يا ريت ما تجوزنا
يا ريت ما تجوزنا يا ريت ما تجوزنا. 
يقولون لنا: أنتم ذاهبون إلى حيث لا كهرباء ولا ماء. ونقول: عارفين وراح ننزل ع لبنان. 
ويُقال أيضًا: أن زحمة سير خانقة تنتظركم. 
فنجيب: عارفين وبدنا ننزل. 
يقولون: لا أمان على الطرقات، التي تشبه “العصفورية”. 
فيكون ردّنا: عارفين وبدنا ننزل. 

 

ومن بين ما يقولونه لتخويفنا من القيام بزيارة محفوفة بالمخاطر إن إسرائيل تتربص بلبنان، ولا أحد يعرف متى تعتدي عليه وتقصف كل المناطق كما تهدّد دائمًا. فنجيب: لا أحد يعلم. وحتى ولو علمنا سننزل. 
ما هذا الشعور الذي ينتاب كل مغترب عندما تقترب الطائرة من شواطئ بيروت وقبل أن تحطّ في مطار رفيق الحريري. إنه شعور العاشق الذي لم يرَ معشوقته منذ زمن بعيد.  
عائد إليك بيروت حاملًا معي تعب السنين، والشوق الذي لم ينقص. 
عائد اليك بيروت وفي قلبي ألف غصّة وغصّة. أردّتك أن تكوني أجمل الجميلات، وقد حوّلك الحقد والعمى الأخرس إلى “كومة” من حطام أحلام الطفولة. 
عائد إليك وفي جعبتي قليل من الاحلام وكثير من الآمال.  
عائد إليك كما يعود الطفل عند المساء إلى دفء البيت الأبوي.  
    


مصدر الخبر

للمزيد Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى