آخر الأخبارأخبار دولية

فرنسيون فضلوا البقاء والعيش في الجزائر بعد الاستقلال عام 1962


قرر العديد من الفرنسيين والأوروبيين الذين ولدوا في الجزائر بعد الاستعمار الفرنسي لهذا البلد في 1830 البقاء والعيش فيه طيلة حياتهم كباقي الجزائريين. فيما أصبحوا يتحدثون اللغة العربية بطلاقة. أكثر من ذلك، يصف البعض منهم أنفسهم بأنهم “جزائريون حقيقيون” كما تنقل على لسانهم وكالة الأنباء الفرنسية.  من جهة أخرى، أكد الخبير في ملف حرب الجزائر بيير دوم، في كتاب “آخر المحرمات” أن غالبية الحركى فضلوا البقاء هم أيضا في الجزائر.

بعد ستين عاما على توقيع اتفاقيات إيفيان التي مهّدت لنهاية الحرب واستقلال الجزائر بعد أكثر من 130 عامًا من الاستعمار الفرنسي، يعرّف الأوروبيون المولودون في الجزائر والذين ظلوا في وطنهم الأم، عن أنفسهم بأنهم “جزائريون حقيقيون”.

وقالت ماري فرانس غرانغو المولودة قبل 84 عاما في الجزائر “أسفي الوحيد هو أنني لم أتعلّم اللغة العربية بشكل جيد”. وتضيف السيدة التي عاشت آنذاك في بيئة “أوروبية خالصة” أنها خلال دراستها في الجزائر، “حتى السنة الثالثة من المرحلة الثانوية، لم يكن هناك طالب جزائري واحد يدرس معي”.

ولدت في مدينة الشلف على بعد 200 كيلومتر غرب الجزائر، وقضت طفولتها غير بعيد عن هذه القرية آنذاك مع جدتها لأبيها في واد رهيو، بعدما التحق والدها بجبهة القتال في بداية الحرب العالمية الثانية (1939-1945). لدى عودته، انتقلت العائلة إلى الجزائر العاصمة لتتابع ماري فرانس تعليمها، لأنه لم تكن هناك “مدرسة واحدة” في قريتها.

العودة إلى الجزائر بشكل “نهائي”

وتعرّفت على زوجها جان بول غرانغو في تجمع للشباب المسيحيين البروتستانت، وتزوجا في 10 آذار/مارس 1962 قبل أسبوع من التوقيع على اتفاقيات وقف إطلاق النار في إيفيان (وسط شرق فرنسا) بين الجيش الفرنسي و”جبهة التحرير الوطني”.

قبل استقلال الجزائر بفترة وجيزة في تموز/يوليو1962، لحقت ماري فرانس بزوجها في فرنسا بعد استدعائه للخدمة العسكرية، لكن الزوجين “عادا بشكل نهائي” في بداية عام 1963 عندما تم تعيين جان بول غرانغو في وظيفة في العاصمة الجزائرية.

خلال سنتي 1961 و1962، أقام زوجها الطبيب اتصالا مع مناضلي “جبهة التحرير الوطني” الذين أمدهم بالأدوية والدم، وفق ما تروي زوجته. ومثل عائلة غرانغو، اختار بعض “الأقدام السوداء”، وهو الوصف الذي يطلق على الأوروبيين المولودين في الجزائر وقت الاستعمار والذين شارك بعضهم أحيانًا في الكفاح من أجل الاستقلال، عدم الرحيل.

مغادرة الجزائر كانت بمثابة “مأساة” للمستوطنين الأوروبيين

وتوضح ماري فرانس “كان المستوطنون الأوروبيون مرتبطين جميعهم بقوة بالجزائر، ولهذا السبب كانت مغادرة البلاد مأساة بالنسبة لهم”. وكان عدد المستوطنين في عام 1963 قرابة مئتي ألف لم يبق منهم عام 1993 سوى 30 ألفا، وفقًا للمؤرخة إيلان براكو. ورحل عدد كبير من هؤلاء إلى فرنسا خلال العشرية السوداء (1992-2002).

وتقول ماري فرانس “لم نسع للعيش مع الأوروبيين الآخرين الذين بقوا في الجزائر، بل أردنا التعرف على الجزائريين والاختلاط بهم”. وتشير الى أن زوجها كان يحاول “الاستجابة لاحتياجات المرضى وطلاب كلية الطب بالوسائل القليلة المتوفرة”.

وأصبح جان بول الذي حصل على الجنسية الجزائرية في 1970، أستاذًا في طب الأطفال في مستشفى بني مسوس بالعاصمة، ثم مستشارًا لوزير الصحة عام 1994. وتوفي الطبيب الذي وضع جدول تطعيم الأطفال في الجزائر، في آب/أغسطس 2020 عن عمر 82 عامًا.

“شابان ومتفائلان”

ويحمل ثلاثة من أبناء عائلة غرانغو الخمسة أسماء جزائرية. فقد “نشأوا هنا وذهبوا إلى المدرسة في الجزائر ويتحدثون العربية بطلاقة”، وفق ما تقول والدتهم. وتضيف “حتى إننا كنا بالكاد نفهم ما يقولون عندما كنا نستمع إليهم يتحدثون مع بعضهم البعض باللهجة الجزائرية”. وحصلت ماري فرانس مثل زوجها على الجنسية الجزائرية عام 1972، و”كان ذلك خيارا”، وفق قولها.

وكان الزوجان غرانغو “شابين ومتفائلين”. وتقول ماري فرانس “قلنا لأنفسنا هذا وطننا، لقد ولدنا هنا وسنبقى هنا”، حتى ولو أنهما واجها صعوبات.

وتؤكد المرأة التي أمضت معظم حياتها المهنية موظفة في وزارات، أنه “ليس من السهل ألا تكون مثل بقية الناس، ولا تلقى دائمًا قبولا. ألا تكون مثل بقية الناس يعني ألا تكون مسلمًا، وأن تكون من أصل فرنسي وتحمل اسما كاسمنا”.

ومن الأوروبيين الجزائريين، عائلة كارولين ألتيراك جانسن التي تبلغ اليوم 69 عامًا. غادرت عائلتها وهران (غرب) عام 1959 عندما نُقل والدها للعمل في فرنسا.

لكن عائلتها لجهة أمها “تقطن في الجزائر منذ خمسة أجيال”. وتقول “اخترت العودة إلى الجزائر في عام 2006 للإشراف على الأعمال العائلية التي أنشأها أجدادي في عام 1918”. ولديها “ذكريات كثيرة عن الطفولة والمراهقة خلال العطل السنوية” التي قضتها عند جدّيها أو أبناء عمومتها. “كنا جميعًا أبناء أرض الجزائر”.

” أنا جزائرية بالقلب في هذا البلد الرائع وغير المعروف”

بعد الاستقلال، بقي جزء من عائلتها الكبيرة في الجزائر حيث كانت “جذورهم”، ولأن حياتهم الاجتماعية والمهنية كانت “راسخة بقوة” فيها. وتقول كارولين في شقتها في العاصمة الجزائرية “اليوم، أنا جزائرية بالقلب في هذا البلد الرائع وغير المعروف، وأنا أدافع عنه بشدة”. وتضيف أنها “فخورة أيضًا بكونها فرنسية على أرض الجزائر ويشرفها أن يتم الترحيب بها على هذا النحو”.

وتروي كارولين قصة شانتال لوفافر، وهي “جزائرية أخرى بالقلب” أسست عائلتها مطبعة موغان في عام 1867. بعد قضاء جزء من حياتها في إسبانيا بعد الاستقلال، عادت في سن الـ 48 إلى الجزائر في خضم الحرب الأهلية (1992-2002) من أجل إعادة تشغيل المطبعة. توفيت في موطن ولادتها عام 2015 عن عمر ناهز 70 عامًا.

غالبية الحركى بقوا في الجزائر

وإلى ذلك، أكد الخبير في ملف حرب الجزائر بيير دوم، في كتاب “آخر المحرمات” (بعد تحقيق استمر سنتين) أن الجزائريين الحركيين لم ينخرطوا، على عكس “الخطاب السائد”، في دعم الفرنسيين بسبب “خيار إيديولوجي” و”بقيت غالبيتهم في الجزائر” بعد الاستقلال في عام 1962.

وقال بيير دوم أنه بعد الاستقلال، بقيت غالبية الحركيين في الجزائر ولم تصدر “جبهة التحرير الوطني” أمرا بإعدامهم. في فرنسا كما في الجزائر، الخطابات السائدة مليئة بالأخطاء.

أول خطأ كبير هو الاعتقاد بأنهم التحقوا بالجيش الفرنسي “حبّا بالعلم الفرنسي، وبخيار أيديولوجي”. فاليمين المتطرف الفرنسي يعتبر أنهم “المسلمون الجيدون” المعارضون “للفلاقة الأشرار” (الوصف الذي أطلقه الجيش الفرنسي على المناضلين الجزائريين). في الجزائر، يعتبرون عن خطأ أيضا “الخونة” مثل “المتعاونين” الفرنسيين مع النازيين.

الحركى بين مطرقة عنف الجيش الفرنسي وسندان بعض عناصر جيش التحرير الوطني

وفي الغالب، كان السبب أن عائلاتهم كانت تموت جوعاً في “معسكرات اعتقال” أنشأها الجيش الفرنسي الذي رحّل قسرا (منذ عام 1955 لتجنب أن يدعموا دعاة الاستقلال) 2,5 مليون مزارع من مجموع ثمانية ملايين.

ووقع آخرون بين مطرقة عنف الجيش الفرنسي وسندان بعض عناصر جيش التحرير الوطني. وبالنسبة للبعض، كان السبب النزاعات العشائرية القديمة الموروثة عبر الأجيال. وتشير كلمة “حركي” إلى الجزائريين المنضوين كمدنيين لمساعدة الجيش الفرنسي، والذين بلغ عددهم 250 ألفا. لكنها تستخدم في الغالب بمعنى واسع فتشمل أيضًا الجنود الجزائريين في الجيش الفرنسي والمجندين والأعيان الموالين لفرنسا، ما يرفع عددهم إلى 450 ألفا. وغادر 30 ألفا منهم فقط الجزائر نحو فرنسا، في كثير من الأحيان مع زوجاتهم وأطفالهم، ما أعطى “هجرة حركيين” بلغت 90 ألف شخص في عام 1962.

حركيين احتُجزوا في معسكرات بفرنسا في ظروف معيشية مهينة

وجاء في كتاب بيير دوم أن “هذا هو الخطأ الثاني الكبير. في فرنسا، يُقال إنهم “ذُبحوا جميعًا”، ما يسمح للمدافعين عن منظمة الجيش السري (التي نفذت تفجيرات وهجمات مطالبة بجزائر فرنسية) بالادعاء بأن هذه المنظمة الإرهابية أرادت إنقاذ الحركيين والأقدام السوداء (الفرنسيون المولودون بالجزائر) من “وحوش” جبهة التحرير الوطني.

ويكشف التحقيق الذي قمت به أن “الغالبية العظمى من الحركيين عادوا إلى قراهم. لكن كثيرين منهم اعتقلوا وتعرضوا للتعذيب. فقد أنشأت جبهة التحرير الوطني محاكم شعبية وتم إعدام الحركيين المتهمين بالتعذيب أو الاغتصاب على الفور. وهناك حديث عن آلاف وحتى بضع عشرات آلاف من القتلى الحركيين”.

 وفي فرنسا، فمن بين 90 ألف شخص وصلوا في عام 1962بعد اتفاقية إيفيان ، توزّع النصف دون أن تعرف هوياتهم في مناطق عدة، والنصف الآخر احتُجز في معسكرات في ظروف معيشية مهينة: حرمان من الحرية وعزل عن المجتمع الفرنسي وتعليم سيء للأطفال، ورعاية طبية مزرية وعنصرية من الحراس… تمّ التعامل مع الحركيين على أنهم مستعمَرون بالطريقة نفسها التي تعاملت بها فرنسا مع “الأهالي الأصليين” لمستعمراتها لمدة ثلاثة قرون.

وبذل الجنرال شارل ديغول قصارى جهده لضمان عدم عبورهم البحر الأبيض المتوسط من الجزائر نحو فرنسا، لذلك كان عددهم قليلا في فرنسا. فمنذ عام 1959، كان يقول لوزيره آلان بيريفيت “نحن أولا وقبل كل شيء شعب أوروبي من العرق الأبيض والدين المسيحي. العرب عرب والفرنسيون فرنسيون”.

ما الذي يمكن أن تفعله باريس والجزائر لمصالحة الذاكرة المشتركة والجريحة؟

 أجاب الخبير بيير دوم من خلال كتابه أنه من بين الثلاثين ألف رجل الذين وصلوا الى فرنسا في عام 1962، عدد قليل لا يزال على قيد الحياة. الحركيون الذين تتحدث عنهم وسائل الإعلام الفرنسية هم أفراد جمعيات لأبناء الحركيين. ويوجد أيضًا مئات الآلاف من أبناء الحركيين في الجزائر لا يزال بعضهم ضحية للإقصاء الاجتماعي.

استعدادًا للانتخابات الرئاسية، شرع الرئيس إيمانويل ماكرون في جولة يقول فيها لكل فئة: الحركيون، والأقدام السوداء، وأبناء المقربين من “جبهة التحرير الوطني” الذين أُلقي بهم في نهر السين في عام 1961، أنه يعترف بمأساة الماضي، وأنه لا بدّ من تجاوز الماضي والاعتراف بالحقيقة التاريخية.

كل هذه الآلام لها مصدر مشترك: الاستعمار كمشروع إجرامي. على فرنسا أن تدرك أن الجزائريين هم إلى حد بعيد أولئك الذين عانوا أكثر من غيرهم من جرائم الاستعمار. بعد ذلك، سيتعين على الجزائريين الاعتراف بأن الحركيين كانوا أيضًا ضحايا للاستعمار. عندها، يمكننا التفكير في إصلاح وتسوية الذاكرة الجريحة.

 

فرانس24/ أ ف ب


مصدر الخبر

للمزيد Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى