آخر الأخبارأخبار محلية

وهل يستحقّ الأقطاب الموارنة كل هؤلاء القديسين والطوباويين؟

وأنا أتابع وقائع القداس، الذي أعلن فيه قداسة الحبر الأعظم البابا فرنسيس المكرّم البطريرك الماروني اسطفان الدويهي طوباويًا، وهو البطريرك السابع والخمسون في سلسلة البطاركة الأبطال والقديسين ، وإن لم تعلن الكنيسة قداستهم، في قداس أقيم في الصرح البطريركي، وأنا على مسافة الآف الأميال بعيدًا عن وطن يسكن في قلبي، ويحتّل عقلي وفكري، خالجني شعور فيه من التناقضات ما يفيض.

 

ففي لحظات سبح خيالي إلى هذا “اللبنان”، الذي عاش فيه البطريرك الطوباوي، والذي عاش فيه قبله ستة وخمسون بطريركًا سكنوا في مغاور جباله وجاهدوا الجهاد الحسن لكي يبقى جبل لبنان، وبالأخص في قسمه الشمالي، واحة حرية لجميع عشّاق هذه الحرية، التي أريقت من أجل أن تنتقل ناصعة من جيل إلى جيل الكثير من الدماء الزكية، وان يبقى هذا الجبل، الذي عانى الأمرّين من الاضطهادات المتلاحقة، ملجأ لجميع المضطهدين.

 

هو تاريخ تفتخر به جميع الأجيال، وهو يليق بهم، وكان من بين الذين أثرّوا في أحداثه بطاركة كبار أمثال البطريرك التاريخي والاستثنائي الطوباوي اسطفان الدويهي. ولولا كل هذه البطولات، وكل هذه القداسة، وكل تلك التضحيات، وكل هذا التعّلق بالأرض وبالإيمان والرجاء والمحبة، لما وصل إلينا ما نتباهى به من وطن يعيش اليوم أقسى أيامه، وإن كانت لا تقلّ قساوة عن أيام سنواته الأخيرة.

 

وعلى مهابة احتفالية التطويب، وما بّذل من أجل انجاحها من جهود وسهر من قبل اللجنة المنظمة، لم أتمالك نفسي عن التحسّر على غياب رأس الدولة، وهو ابن هذه الطائفة، التي أنجبت الدويهي وشربل والحرديني ورفقا والطوباويين الأخ اسطفان وأبونا يعقوب والكثير من أبطال هذه الطائفة على مرّ العصور. وما زاد من حزني أن رأيت المتقدّمين في الرتبة التمثيلية للأمة المارونية يجلسون إلى جنب بعضهم البعض، وكل منهم يضمر للآخر ما يتناقض مع ما اعتادوا أن يسمعوه من كلام الانجيل، وما يصل إلى مسامعهم عن فضائل وبطولات صنعوا عبر التاريخ وتراكم الخبرات مجد لبنان، الذي لم يعطَ لأحد لغير سليل البطاركة القديسين بما يرمز إليه، وبما هو مطلوب منه. والمطلوب منه اليوم الكثير الكثير، وهو المعطى له الكثير.

 

قد يقول البعض إن الخلافات المارونية – المارونية ليست جديدة، وهي كانت منذ أن كان تسابق بين هؤلاء الموارنة على الكراسي والمناصب والصفوف الأمامية والعيش في الأضواء، التي غالبًا ما تحرق الذين يكثرون التعرّض لوهجها. صحيح ما يقوله هذا البعض. ولكن الخلافات في الماضي لم تصل بالأقطاب الموارنة إلى حدّ مساهمتهم، من حيث يدرون أو لا يدرون، في تعطيل الانتخابات الرئاسية وتعطيل الوطن، وإن بنسب متفاوتة. ولكن لم تكن الخلافات المتباينة في الماضي لتسمح بأن يصبح المركز الماروني الأول في هرمية المسؤوليات في الدولة كادر صور من دون صورة. ومن منّا لا يتذكّر كيف أن المصلحة الوطنية حتّمت على الأقطاب الموارنة، قبل نحو ستين سنة تقريبًا قيام “الحلف الثلاثي”، الذي جمع كلًا من الرئيس كميل شمعون والشيخ بيار الجميل والعميد ريمون أده. وما كان يجمع بينهم في السياسة أي قاسم مشترك. ولكن المصلحة الوطنية فرضت عليهم التنازل عن مصالحهم الشخصية من أجل المصلحة الوطنية أولًا، ومصلحة الطائفة ثانيًا. وهذا ما لا نشهده اليوم، لأن لا أحد من أقطاب اليوم على استعداد لأن يقدّم أي تنازل أو أن يتخّلى عن بعض من أنانية من أجل انقاذ ما تبقّى لهم من هيبة وسلطة.

 

وأنا أسرح بفكري في ما آلت إليه حال الموارنة تذكرّت العبقري الأرثوذكسي منصور الرحباني ومسرحيته “ملوك الطوائف”، الذين أقام كل منهم مملكته الخاصة به على حساب الدولة المركزية القوية، وكيف أنتهى بهم الحال، وما آل إليه حال الاندلس، الذي قيل فيهم هذا القول لأحد الشعراء:

 

مما يزهدني في أرض أندلس

ألقاب معتمد فيها ومعتضد

ألقاب مملكة في غير مواضعها

كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد

وتسألون بعد لماذا كل هذا التشتّت والضياع، ولماذا كل هذه الهجرة، ولماذا كل هذا القرف، ولماذا كل هذا الانقطاع بين أبناء مار مارون وبين من يسمّون أنفسهم أقطابًا.

ليتني اكتفيت بالصلاة والتأمل في سيرة البطريرك الطوباوي بدلًا من كسر قلبي أكثر مما هو منكسر.


مصدر الخبر

للمزيد Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى