“الروس لم يتوقفوا عن قصفنا ويمكن أن نموت في أية لحظة”… خاركيف الأوكرانية بعد عام على الحرب
رغم انسحاب القوات الروسية مبتعدة نحو 40 كيلومترا عن خاركيف الأوكرانية، إلا أن السكان ما زالوا يعيشون تحت تهديد القصف. حوالي مليون شخص غادروا المدينة الواقعة بشرق أوكرانيا ولم يعودوا إليها أبدا. الظلام يلف الشوارع والصواريخ التي تطلقها قوات موسكو من مدينة بيلغورود المجاورة على المنازل والمباني باستمرار تثير الخوف والهلع بين السكان. فرانس24 التقت بالعديد من الأشخاص ونقلت لكم شهاداتهم.
“مدينة خاركيف لا تزال تعيش تحت التهديد. الروس لم يتوقفوا عن قصفنا”، هكذا تقول أنستازيا، (22 عاما) بعد عام على الحرب التي تشنها روسيا على أوكرانيا وثمانية أشهر من انسحاب القوات الروسية من المواقع المهمة في منطقة خاركيف.
خاركيف هي ثاني أكبر مدينة في أوكرانيا بعد العاصمة كييف من حيث عدد السكان. كان يقطنها نحو مليون ونصف نسمة، حسب إحصائيات ما قبل الحرب.
وتضيف أنستازيا: “غالبية أصدقائي انضموا إلى صفوف الجيش الأوكراني. فيما رحل البعض الآخر إلى أوروبا أو إلى مدن أوكرانية أكثر أمنا. لم يبق لي الكثير من الأصدقاء هنا”.
قضت أنستازيا سبعة أشهر في مدينة لفيف غربي أوكرانيا كمتطوعة في جمعية إنسانية محلية. لكنها قررت رغم ويلات القصف العودة إلى المدينة التي ولدت فيها. “عدت إلى مسقط رأسي لأن زوجي التحق بالجيش. فمن واجبي أن أشجعه وأساعده. والدي أيضا لا يزال يعيش هنا ويرفض الرحيل”.
لم تتمكن القوات الروسية من السيطرة على خاركيف حيث واجهت “صمودا قويا من قبل الجيش الأوكراني”، حسب ما أكد الشاب أوجين الذي يرافق الصحافيين الأجانب في مهماتهم الميدانية. مضيفا “الجيش الروسي لم يغز سوى البلدات والأحياء الشعبية التي تقع في ضواحي خاركيف قبل أن يخرج منها في نهاية شهر يونيو/حزيران 2022”.
هدف الصواريخ “تخويف السكان وإرباكهم”
ومنذ انسحابها، لم تكف القوات الروسية عن قصف المدينة مرات عديدة في الأسبوع. استهدف صاروخان “إيس 300” كلية الاقتصاد الحضري ومبنى يقع وراءها وسط المدينة في السادس من شهر فبراير/شباط 2023، ما أسفر عن إصابة 4 أشخاص بجروح متفاوتة الخطورة. أحد المصابين كان حارسا في الكلية أما الثلاثة الآخرون فكانوا يسكنون في بناء خلفها.
فرانس24 توجهت إلى المواقع التي تعرضت للقصف والتقت بمسؤول طوارئ مدينة خاركيف أوجيني فاسبينكو الذي يؤكد أن “المبنى المستهدف كان خاليا من السكان ولا تستخدمه القوات الأوكرانية كقاعدة عسكرية كما يزعم الروس”.
ويتابع: “خاركيف تتعرض للقصف بدون توقف. الصواريخ تطلق من مدينة بيلغورود الروسية التي تبعد نحو 30 كيلومترا فقط من خاركيف” مضيفا أن الهدف من قصف هذه الصواريخ هو “تخويف السكان وإرباكهم وحرمانهم من الشعور بالأمان” على غرار الشابة أنستازيا التي صارت تشعر بالخوف منذ الغزو الروسي وتخشى الظلام.
وتقول أنستازيا لفرانس24: “قبل الحرب، كنت أحب المشي في المدينة ليلا وبمفردي. أما اليوم الشوارع غير مضاءة. يمكن أن تسقط القنابل على منازلنا ونموت في أية لحظة. يمكن أن نموت بسهولة”. ورغم هذا الشعور، إلا أنها قررت البقاء في مدينتها حتى نهاية الحرب.
حي سالتيفسكا المهجور
حوالي مليون شخص غادروا مدينة خاركيف وضواحيها بسبب غزو القوات الروسية. غالبيتهم طلاب جاءوا من عدة دول خصوصا عربية وأفريقية لمتابعة دراستهم.
اليوم، أصبحت الشوارع شبه خالية من المارة ليلا وكذلك نهارا. كما أطفئت كل الأضواء التي كانت تنير المدينة لأسباب أمنية. وأغلقت المؤسسات التربوية أبوابها وبات الجميع يتابع دراسته عن بعد. العديد من المتاجر والمطاعم اضطرت لغلق أبوابها مع تناقص روادها. فيما تم تدعيم أبواب ونوافذ البنايات بألواح خشبية.
حتى شارع سوماسكا وسط خاركيف، والذي يشبهه السكان بجادة الشانزليزيه الباريسية، لم يعد يستقطب الناس كالسابق. الساحة التي كانت مكانا للمواعيد الغرامية وقبلة للسياح أصبحت شبه خالية وتبعث على القلق والخوف بسبب الظلام الذي يلفها. أحياء شعبية مجاورة لخاركيف تعاني هي الأخرى من القصف الروسي، كحي سالتيفسكا الواقع شمال شرق المدينة.
كان حي سالتيفسكا يعتبر قبل الحرب من أكبر الأحياء السكنية في هذه المنطقة من حيث الكثافة السكانية حيث كان يقطنه أكثر من 300 ألف شخص. أما اليوم فلم يتبق فيه إلا قلة قليلة من السكان، غالبيتهم مسنون لم يتمكنوا من الهرب قبل أن تحاصر القوات الروسية الحي.
المباني في سالتيفسكا مهدمة والمتاجر مقفلة
أثر الدمار لا يزال واضحا على المعالم والعمارات التي تحول بعضها إلى ركام، في حين احترق البعض الآخر. وتشرح إلينا (28 عاما) وهي طالبة في قسم الاقتصاد كانت تسكن في هذا الحي سابقا بسبب “تكاليف الإيجار المنخفضة” كيف عانت مع زميلتها من الرعب والقصف.
تقول لفرانس24: “في 24 شباط/فبراير 2022، قصفت القوات الروسية الحي بشكل عشوائي. الصواريخ كانت تتهاطل كالأمطار من السماء. الكثير من القاطنين تمكنوا من الهروب باتجاه خاركيف على بعد نحو 10 كيلومترات. لكن بعد ثلاثة أيام، حاصر الجنود الروس الحي بأكمله ومنعوا السكان من الذهاب إلى خاركيف وأرغموهم على التوجه نحو الحدود الروسية. العديد من العائلات الأوكرانية أجبرت على الذهاب إلى روسيا ثم بعد ذلك إلى جورجيا ودول أوروبية أخرى”.
توقفت الحياة في حي سالتيفسكا الذي يوصف الآن بـ “حي الأشباح”. العمارات مهجورة بالكامل وغالبية المتاجر مقفلة ولم يتبق فيه سوى بعض المسنين الهائمين في الشوارع المكسوة بالثلوج. نوافذ الشقق التي لم تنهار جراء القصف مغطاة بألواح من الخشب للحماية من تناثر الزجاج إذا تعرضت مجددا للقصف.
التقينا يورا بين البنايات المهدمة بينما الليل بدأ يسدل ستاره. يسكن هذا الرجل مع زوجته في شقة صغيرة في حي سالتيفسكا رقم 1 في عمارة تضم 45 عائلة لكن “لغاية اليوم لم يعد إليها سوى 10 عائلات من التي غادرت. أما العائلات الأخرى فلا تزال إما في مدن أوكرانية أخرى مثل لفيف أو في بولندا المجاورة” حسب قوله.
“الخوف لا يزال ساكنا نفوس الناس”
ويتابع: “طبعا أتمنى أن يعود السكان إلى منازلهم لكن قد يستغرق ذلك وقتا طويلا. نحن نعيش على بعد 30 كيلومترا من الحدود مع روسيا. وبالتالي لا أستطيع أن أجزم أن الجميع سيعود لأن الخوف لا يزال مسيطرا على نفوس الناس. فمن الممكن في أية لحظة أن يقصف الروس الحي من جديد”.
واعترف في النهاية أنه لا يملك “خيارا آخر، لهذا السبب اضطر إلى العودة إلى منزله. وهو بدون عمل ولا دخل لديه سوى راتب التقاعد الذي لا يتعدى 75 يورو في الشهر”.
بعد مرور 7 أشهر على مغادرة القوات الروسية هذا الحي، استطاعت بلدية خاركيف، بمساعدة شركة فرنسية إعادة تأهيل نظام التدفئة. غادر يورا حي سالتيفسكا في الأيام القليلة التي تلت القصف الروسي وهرب إلى قرية مجاورة مع زوجته ثم عادا إليه في شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي. أما أولاده فقد فضلوا الذهاب إلى بولندا المجاورة.
بني حي سالتيفسكا في الستينيات من القرن الماضي على الطريقة السوفياتية. في البداية كان مخصصا لموظفي الدولة. لكن سرعان ما تغيرت ديموغرافيته وتحول بسبب قربه من المصانع إلى حي للعمال الذين كانوا يسكنون شققا متواضعة.
حي سالتيفسكا الشعبي أصبح مهجورا
اتسع حي سالتيفسكا تدريجيا عبر السنين وتم تشييد عمارات عالية حديثة ومراكز للتسوق ومدارس وحدائق بقربه، وصار يشمل 5 مناطق مجاورة لبعضها البعض. وكان الهدف من ذلك استقطاب أوكرانيين من الطبقة المتوسطة لكن عوض ذلك، جاء الطلبة الأفارقة والعرب واستقروا في هذا الحي القريب من سوق “باراباشوف” الذي يعتبر من أكبر الأسواق مساحة في أوروبا.
وسمي بـ”باراباشوف” تكريما لعالم الفضاء الأوكراني نيكولا باراباشوف (1971/ 1894) المولود في خاركيف. قبل الحرب، كان السوق يستقطب الآلاف يوميا. يأتون من وسط خاركيف ومن البلدات المجاورة. حتى الروس كانوا يأتون إليه بسبب توفر كل أنواع البضائع والمنتجات فيه. كما كان يعج بالمحلات التركية وتلك التي تبيع منتجات إسلامية وكان الطلاب الأفارقة والعرب يأتون لشراء لحم الحلال ويتناولون مأكولات تركية أو يدخنون النارجيلة. أما اليوم فغالبية محلات التسوق أغلقت أبوابها ليفقد بذلك حي سالتيفسكا روحه.
تم استهداف السوق عدة مرات، ما جعل البائعين والزبائن يهجرونه. ليليا مواطنة أوكرانية مسنة تسكن في سالتيفسكا، دأبت على الذهاب إلى سوق “باراباشوف” ثلاث مرات في الأسبوع قبل الحرب. تقضي هناك وقتا ممتعا مع أصدقائها وتتناول كأسا من الشاي. لكن اليوم “الحياة تغيرت تماما” حسب قولها “وصار من الصعب الحديث عن الماضي”.
وقالت لفرانس24: “أشعر بالحزن والمرارة عندما أتذكر كيف كان حي سالتيفسكا قبل الدمار. كان يعج بأصوات الأطفال والنساء والطلاب من كل الجنسيات. لقد دمر الروس حياة الناس ولا أدري ما هو السبب”.
“أتمنى أن يدرك الروس أن هذه الحرب تقتلهم أيضا”
وتتابع بنوع من التفاؤل: “رغم كل المصائب بدأ الناس يعودون إلى الحي لأن ليس لديهم أماكن أخرى يعيشون فيها. تكاليف الإيجار مرتفعة ولا يوجد عمل”.
وعندما نسألها كيف تنظر إلى المستقبل، تجيب: “أنا متفائلة. لا يمكن أن نعيش بدون الأمل في الحياة. أتمنى أن يدرك الروس أن هذه الحرب تقتلهم هم أيضا وبالتالي يوقفونها ويفكرون في مستقبل بلادهم ويعالجون مشاكلهم الداخلية عوضا عن غزو بلد مجاور”.
أما ألينا التي كانت تتجول برفقة كلبها، فلا “تزال تشعر بالحزن أمام الدمار الذي لحق بالمباني” كما تقول، مضيفة “أن كل هذا سيتطلب وقتا طويلا لإعادة بنائه”.
عادت ألينا إلى أوكرانيا، وكانت تعمل كعاملة نظافة في إسبانيا، لأن زوجها لم يتمكن من الالتحاق بها. تقول لنا “أفضل العيش هنا برفقة زوجي وابني. أقضي يومي في المنزل. أحاول تصليح الأشياء والتجهيزات التي تكسرت جراء القصف. لم أجد عملا حتى الآن. أتقاضى فقط مساعدة مالية قيمتها 50 يورو في الشهر. هذا المبلغ ضئيل لكنه يساعدنا على البقاء على قيد الحياة”. وتضيف “سيتم إعادة بناء الحي من جديد وسيعود الناس إليه في الربيع”.
طاهر هاني، موفد فرانس24 إلى أوكرانيا
مصدر الخبر
للمزيد Facebook