الاحتباس الحراري والاستغلال المفرط للمياه… نهر النيل فريسة لتهديدات جدية بالجفاف
نشرت في: 07/11/2022 – 20:03
من أوغندا وصولا إلى مصر، يسمح نهر النيل لملايين الأفارقة بالبقاء على قيد الحياة. ولكن في ظل ظاهرة الاحترار التي تضرب العالم، إضافة لاستغلال الإنسان لموارد النهر، فإن مجرى النيل بدأ في الجفاف، وبات الفلاحون يخشون على محاصيلهم الزراعية ونقص الطاقة الكهربائية.
ثاني أطول أنهار العالم في خطر. فنهر النيل البالغ طوله 6600 كيلومتر، بوقوعه فريسة لظاهرة الاحتباس الحراري العالمية واستغلال البشر المفرط على ضفتيه، بات عرضة للجفاف. ومصر، التي تستضيف قمة المناخ العالمية “كوب 27” في شرم الشيخ، تجد نفسها اليوم في مواجهة نقص خطير في المياه.
ففي خمسين عاما فقط شهد معدل تدفق مياه النهر نقصا ملحوظا من ثلاثة آلاف متر مكعب/ثانية إلى 2830 مترا مكعبا/ثانية، أي أقل مئة مرة من معدل تدفق مياه نهر الأمازون. ولكن ذلك يعد مجرد البداية؛ ففي مواجهة انخفاض هطول الأمطار وتكاثر حالات الجفاف المعلنة في شرق أفريقيا، يمكن أن تنخفض كمية المياه المتاحة للفرد بنسبة 70 بالمئة بحلول عام 2100 وذلك وفقا لأسوأ توقعات الأمم المتحدة.
وهي ظاهرة وخيمة العواقب بلا شك بالنسبة لملايين السكان الأفارقة الذين يضمن النهر بقاءهم على قيد الحياة. ويجتاح القلق البلدان العشر التي يجري بها هذا النهر الكبير – تنزانيا وبوروندي وجمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا وأوغندا وكينيا وجنوب السودان والسودان وإثيوبيا ومصر- فالجميع يخشى تقلص الرقعة الزراعية وفقدان المحاصيل وتوقف توليد الكهرباء.
“من لديهم القليل من الماء اليوم فستقل غدا حصتهم أكثر فأكثر”
تقع بين كينيا وأوغندا وتنزانيا، تعد بحيرة فيكتوريا -أكبر بحيرة في أفريقيا وأحد أهم منابع نهر النيل- أكبر مصدر لمياه النهر بعد هضبة الحبشة المعتمدة على هطول الأمطار. ومع ذلك، فهي تعاني خطر الاختفاء يوما ما جراء قلة الأمطار وظاهرة التبخر والتغيرات البطيئة في ميل محور الأرض.
ووفقا لدراسة أجراها ستة باحثين من جامعات أمريكية وبريطانية في عام 2020 بناء على معطيات تاريخية وجيولوجية في المئة ألف سنة الأخيرة، فإنه من الممكن لبحيرة فيكتوريا أن تختفي من الوجود في غضون خمسمئة عام.
علما أن حوض نهر النيل يغطي 10 بالمئة من مساحة أفريقيا ويشكل موردا أساسيا لنحو 500 مليون شخص يعيشون على ضفافه. وهي حقيقة تجعل من تراجع فيضان النيل بسبب الاحتباس الحراري أمرا مقلقا، كما يوضح حبيب عايب الجيولوجي والأستاذ الفخري بجامعة باريس 8 – سان دوني. “من لديهم القليل من الماء اليوم فستقل حصتهم غدا أكثر فأكثر، لأن المنافسة على المياه ستكون أشد فظاعة”، يقول موضحا في إشارة إلى الأولوية الممنوحة للزراعة الاستثمارية واسعة النطاق التي تستهلك كميات كبيرة من مياه النيل. “إن الأشخاص الأكثر احتياجا هم ضحايا انخفاض المياه بسبب الاحتباس الحراري”.
ومع ذلك، يشدد الباحث على نقطة في غاية الأهمية: “يجب أن نميز بين ما هو من صنع الطبيعة وما هو من صنع الإنسان”، فهو يعتقد أن المخاطر التي تؤثر على سكان ضفاف النيل ناتجة بصورة كبيرة حتى الآن عن السياسات المائية المنفذة في حوض النيل، أكثر من كونها نتيجة مباشرة للاحترار العالمي. يتابع الجيولوجي بالقول: “هناك منافسة شرسة على المياه لتلبية احتياجات الزراعة الاستثمارية والإنتاج الموجه للتصدير”، مشيرا على وجه الخصوص إلى حالتي إثيوبيا ومصر. “فهذه السياسات الهادفة إلى تصدير مياه النيل على شكل طماطم أو خيار لا تأخذ في الاعتبار مصالح السكان الذين يحتاجون إلى هذه المياه، مما يخلق صراعات بين دول المنبع ودول المصب”.
وبالتالي فإن تراجع فيضان النيل لن يؤدي إلا إلى تفاقم وضع الملايين من الناس الذين يعتمدون على تدفق مياهه والذين ليس لديهم بالفعل ما يكفي منها اليوم. علاوة على ذلك، فإنه من المحتمل أن يعاني الكثير من الأشخاص بمرور الوقت من ارتفاع معدلات الملوحة في أراضي الدلتا شمال مصر.
مياه البحر الأبيض المتوسط عالية الملوحة تغزو نهر النيل
تعد دلتا النيل الواقعة شمال مصر ثالث أكثر الأماكن هشاشة على وجه الأرض في مواجهة الاحتباس الحراري. مع ازدياد ضعف تدفقها، لم تعد مياه النهر قادرة على دفع مياه البحر الأبيض المتوسط، الذي يواصل مستواه بالارتفاع (نحو 15 سنتيمترا في القرن العشرين).
ومنذ عام 1960، تلتهم مياه البحر الأزرق الكبير ما بين 35 و75 مترا سنويا من أراضي الدلتا. ويكفي أن يرتفع مستوى البحر بمقدار متر واحد فقط ليكون قادرا على ابتلاع 34 بالمئة من مساحة هذه المنطقة ومجبرا 9 ملايين شخص على النزوح من ديارهم.
يتابع الأستاذ حبيب عايب مفسرا: “كلما قل مستوى المياه في وادي النيل، كلما غزت مياه البحر الأبيض المتوسط أراضي الدلتا”. ويذكرنا قائلا بأن تلك العملية قد بدأت بالفعل. “تغزو مياه البحر المتوسط المالحة بصورة متزايدة منسوب المياه الجوفية تحت الدلتا مع قلة الكميات الواصلة إليها من المياه العذبة”. وهي ظاهرة يفسرها الإفراط في استخدام مياه النيل الواصلة إلى مصر.
في النهاية، “بات حجم المياه التي تصب في البحر الأبيض المتوسط أقل من مليار متر مكعب، وهي كمية مثيرة حقا للسخرية مقارنة بالكمية التي كانت تصب في البحر منذ أربعين أو خمسين عاما مضت”. والنتيجة هي معاناة أراضي الضفة الشمالية للدلتا من تملح مفرط. يواصل حبيب عايب: “وهو ما يعني انخفاضا في الإنتاج الزراعي في مصر بينما يتضاعف عدد السكان في البلاد”. “وعلى المدى المتوسط أو الطويل، فإن سكان جميع القرى في المنطقة سيضطرون إلى النزوح”.
ووفقا لوكالة الأمم المتحدة للبيئة، فإنه إذا ما واصلت درجات الحرارة ارتفاعها، فإن البحر الأبيض المتوسط سوف يلتهم 100 متر كل عام من أراضي دلتا النيل. لقد لوثت مياه البحر الأبيض المتوسط المالحة بالفعل العديد من الهكتارات من أراضي الدلتا، مما أدى إلى إضعاف النباتات أو قتلها. ووفقا لما يقوله المزارعون، فقد تدهورت جودة الخضروات بالفعل. وللتعويض عن آثار تملح التربة فإن ثمة حاجة متزايدة إلى ضخ المياه العذبة في الحقول، مما يعني رفعها بالطلمبات مباشرة من نهر النيل.
في نهاية المطاف، يمكن لمياه البحر الأبيض المتوسط أن تلتهم نحو مئة ألف هكتار من الأراضي الزراعية في الدلتا، التي تقع على ارتفاع أقل من عشرة أمتار فوق مستوى سطح البحر، أي ما يعادل تقريبا مساحة جزيرة لا ريونيون الفرنسية وذلك حسب برنامج الأمم المتحدة للبيئة. وهي كارثة ستضرب منطقة شمال مصر التي يأتي منها نحو 30 بالمئة إلى 40 بالمئة من الإنتاج الزراعي الوطني.
تنبؤات مقلقة لا تثير إلا المزيد من الشهية للاستحواذ على مياه النهر. ولم تفعل السدود التي بنيت على مر السنين على مجرى النهر إلا التعجيل بحدوث كارثة مؤجلة.
الاستحواذ على المياه بأي ثمن
يوفر أيضا نهر النيل الطاقة الكهربائية لسكان الدول العشر التي يعبرها. فالسودان، على سبيل المثال، يحصل على أكثر من نصف احتياجاته من الكهرباء من الطاقة الكهرومائية. بينما في أوغندا تمثل تلك النسبة نحو 80 بالمئة.
“لكن هذه الكهرباء التي يعتمد عليها السكان كثيرا قد لا تدوم إلى الأبد”، يقول ريفوكاتوس توينوموهانجي، منسق مركز جامعة ماكيريري (أوغندا) بشأن تغير المناخ. فقد بات انقطاع التيار الكهربائي أمرا كثير الحدوث بالفعل في أوغندا. “في ظل ندرة الأمطار، فإن مستوى المياه في بحيرة فيكتوريا وبالتالي نهر النيل برمته سينخفض. الأمر الذي سيؤدي إلى إنتاج أقل من الطاقة الكهرومائية”، يقول الخبير محذرا.
أما في إثيوبيا، فقد أصبحت الحياة بدون كهرباء بالفعل روتينا يوميا لنحو نصف السكان البالغ عددهم 110 مليون نسمة في ذلك البلد الواقع في القرن الأفريقي، وذلك على الرغم من حقيقة أن البلاد هي واحدة من أسرع المناطق نموا في القارة الأفريقية. لذلك تعتمد أديس أبابا كثيرا على سدها الضخم، سد النهضة، لمعالجة هذا الأمر. حتى لو كان ذلك يعني المزيد من الصراعات مع جيرانها.
سد النهضة الكبير، الذي بدأ بناؤه في عام 2011 على النيل الأزرق، الذي ينضم لاحقا إلى النيل الأبيض في السودان لتشكيل النيل المعروف، لديه هدف معلن على المدى الطويل وهو تشغيل 13 توربينا لإنتاج خمسة آلاف ميغاوات من الكهرباء. ومنذ أغسطس/آب 2022، يحتوي خزان السد على 22 مليار متر مكعب من المياه من أصل 74 مليار متر تمثل طاقته الكاملة.
وتفتخر أديس أبابا بالفعل بأن لديها أكبر سد لتوليد الطاقة الكهرومائية في أفريقيا. لكن بالنسبة للقاهرة، فإن ذلك يعد مصدر توتر ناجم عن عدم احترام اتفاق أبرم في عام 1959 مع الخرطوم، بدون إثيوبيا، يمنح 66 بالمئة من التدفق السنوي لنهر النيل إلى مصر و22 بالمئة إلى السودان.
اليوم، تخشى مصر حدوث انخفاض حاد في تدفق نهر النيل إليها إذا تم ملء سد النهضة بسرعة كبيرة. لكن ذلك الموضوع يثير الكثير من الجدل داخل المجتمع العلمي نفسه: فالباحثون يتهمون بعضهم بعضا بالمبالغة في خسائر المياه الواصلة لمصر لتبرير التدخل بالقوة في إثيوبيا، بينما يتهم البعض الآخر بتقليل هذه الخسائر و”خيانة” بلادهم.
من جانبهم، رأى الفلاحون المصريون في مزارعهم آثار السد العالي المقام في أسوان الذي يمنع وصول الطمي -هذا السماد الطبيعي الثمين- إلى أراضيهم مثله في ذلك مثل السدود الكهرومائية الأخرى التي بنيت في إثيوبيا وأوغندا والسودان. فقبل بضع سنوات، كان طمي النيل الأزرق لا يزال يغذي المحاصيل الزراعية بصورة متوازنة. ولكن مع إنشاء المزيد من السدود في أعالي النهر، لم تعد المياه تحمل ذلك الطمي.
يمثل ذلك مشكلة إضافية للسودان، الذي يكافح من أجل إدارة موارده المائية بسبب عدم وجود نظام تخزين أو إعادة تدوير لمياه الأمطار أو للمياه الزراعية. وبات الجوع يهدد بالفعل ثلث السكان هناك. مثل السودان، فإن بلدان وادي النيل الأخرى كلها تقع في ذيل تصنيف مؤشر “نوتردام العالمي” لتغير المناخ. فبالنسبة لكاليست تينديموغايا، من وزارة المياه والبيئة الأوغندية، “سيكون تأثير الاحترار هائلا”. “إذا كانت لدينا أمطار نادرة، ولكنها جافة، فسوف نعاني من الفيضانات، وإذا كانت لدينا فترات طويلة بدون أمطار، فستكون لدينا موارد مائية أقل”. تصمت المسؤولة هنيهة قبل أن تواصل قائلة: “لا يمكننا البقاء بدونها”.
النص الفرنسي: بولين روكيت | النص العربي: حسين عمارة
مصدر الخبر
للمزيد Facebook