“كلنا إرادة”: “الأصول العامّة مُلك لجميع اللبنانيّين ولا يمكن استخدامها لتعويض خسائر القطاع المالي”
نشرت مجموعة “كلنا إرادة” مقالًا بعنوان “الأصول العامّة مُلك لجميع اللبنانيّين ولا يمكن استخدامها لتعويض خسائر القطاع المالي” جاء فيه:
يحتلّ النقاش الدائر حول توزيع الخسائر في القطاع المالي الصدارة مُجدّدًا، ومعه جدّدت السلطتين الماليّة والسياسيّة ضغوطها من أجل استخدام أصول الدولة لتغطية خسائر القطاع المصرفي.
في الواقع، لن يفيد هذا الإقتراح إلّا فئةً محدودةً من كبار المودعين ومساهمي المصارف. يتّسم هيكل توزّع الودائع بتركّز شديد، إذ يستحوذ أقلّ من 1% من المودعين على مجمل الحسابات التي تزيد قيمتها عن 200 ألف دولار. وبالتالي لن يكون الاستخدام المباشر للأصول العامّة سوى عمليّة نقلٍ للثروة إلى أغنى شريحةٍ في المجتمع، وهي سياسية توزيع عكسيّة مُجحفة، من شأنها زيادة اللامساواة في مجتمعٍ تشوبه مستوياتٌ قياسيّة منها.
تنطوي هذه المقاربة على تأثيرات كارثيّة على عموم اللبنانيين. أكثر من نصف السكّان لا يملكون حساباتٍ مصرفيّة. لذلك، سوف يجرّد هذا الخيار المجتمع من الموارد الاستراتيجيّة التي يمكن استخدامها لإعادة تحريك الاقتصاد، وبالتالي يُعرِّض مستقبل اللبنانيّين للخطر خدمةً لمصالح قلّةٍ قليلة من المُقتدرين.
التزمت حكومة تصريف الأعمال بـ “الحدّ من الاستعانة بالموارد العامّة”، وفقًا للاتفاقية على مستوى الخبراء الموقّعة مع صندوق النقد الدولي. بمعنى آخر، يرفض صندوق النقد الدولي وحكومة تصريف الأعمال، حتّى اليوم، خيارَي بيع الأصول العامّة وإنشاء صندوقٍ يستخدم عائدات هذه الأصول لتعويض خسائر المصارف، على الرغم من كلّ الضغوط التي يمارسها القائمون على القطاع المصرفي.
إنّ الادعاءات المُنتشرة على نطاق واسع عن وجوب استخدام أصول الدولة لتعويض الخسائر المصرفيّة، تستند إلى مفهومٍ خاطئ عن مصدر هذه الخسائر. تُعدُّ سياسة تثبيت سعر الصرف، التي استمرّت برغم العجز الضخم في الحسابات الخارجيّة، السبب الرئيسي في الخسائر الماليّة المُحقّقة، وقد نتج عنها عجزٍ غير مسبوقٍ يتجاوز الـ 60 مليار دولار.
في كلّ الحالات، تبقى أصول الدولة غير كافية لتغطية هذا الحجم غير المسبوق من الخسائر. تُقدّر خسائر القطاع المالي بأكثر من 70 مليار دولار، في حين يُبيّن تقييم للأصول العامّة، أُجرِي قبل انفجار الأزمة، أنّ قيمتها تتراوح بين 11.6 و21.5 مليار دولار في حدّها الأقصى. لذلك، هناك أولويّة مُلحّة لإجراء مراجعةٍ كاملةٍ واعادة تخمين لكافّة الأصول العامّة.
ان استمرار مصرف لبنان باستنفاذ العملات الأجنبيّة وسياسة ليلرة الودائع يُهدِّد أيّ حلّ عملي لتوزيع الخسائر بشكلٍ عادلٍ. لذلك، من الضروري إعادة تصويب النقاش والتركيز على الحاجة المُلحّة لوضع إطارٍ لإعادة هيكلة المصارف بعيدًا عن استخدام الأصول العامّة.
يجب الالتزام بتوزيع الخسائر وفقًا لتراتبيّة المسؤوليّات المُعتمدة دوليًا. من هنا، تأتي أسهم المساهمين أولًا. وقد التزمت حكومة تصريف الأعمال باتباع تسلسلٍ هرميّ لتوزيع الخسائر يبدأ بشطب رساميل المصارف.
من المهمّ أيضًا إخضاع مختلف شرائح الودائع وفئات المودعين لتصنيف دقيق، تُحدّد على أساسه الأولويّات والمعاملات التفضيليّة بالاستناد الى قيمة الحسابات وطبيعتها: الشركات مقابل الأفراد، واللبنانيّون مقابل الأجانب، والمدّخرات الفرديّة مقابل صناديق التقاعد.
هناك العديد من الأدوات التي يمكن استخدامها أيضًا لامتصاص الخسائر، وتشمل استرداد الأرباح السابقة الموزّعة على المساهمين في المصارف والفوائد الطائلة المدفوعة لبعض المودعين، الهيركات على الودائع الكبيرة ولا سيّما ودائع أصحاب المصارف، الليلرة المحدودة والشفّافة للودائع، تمديد آجال استحقاق الودائع (ومن ضمنها إصدار سندات طويلة الأجل)، تحويل الودائع الكبيرة إلى أسهمٍ عادية أو ممتازة أو سنداتٍ ثانويّة.
يجب إعطاء الأولويّة لصغار المودعين وصناديق التقاعد عند توزيع الموارد المُتاحة. يُعدّ ذلك التزامًا واضحًا بالعدالة الاجتماعية، خصوصًا أنّه لم يكن لدى صغار المودعين وصناديق التقاعد خيارٌ آخر سوى إيداع مدّخراتهم في المصارف. وقد صرّح نائب رئيس الحكومة مؤخّرًا أنّ حماية الحسابات التي تصل قيمتها إلى 100 ألف دولار (تشكّل 88% من المودعين) تتطلّب نحو 34 مليار دولار.
الموارد المُتاحة باتت محدودة للغاية. أدّت العرقلة المستمرة لإعادة هيكلة القطاع المالي على مدار العامين ونصف العام الماضيين إلى استنفاد العملات الأجنبيّة بشكلٍ إجرامي، وبالتالي التفريط بما كان يُمكن إعادته إلى المودعين. وفقًا لمعدّل النزف اليومي بالعملات الأجنبيّة، والمُقدّر بنحو 20 إلى 30 مليون دولار، من المرجّح أن تجفّ العملات الأجنبيّة بالكامل بحلول نهاية العام.
أمّا تعويض الودائع الكبيرة فيرتبط بالقدرة على تطبيق مبدأ الشفافيّة والمحاسبة. يعتمد أي تعويض لكبار المودعين على إجراء تدقيقٍ في الودائع والتحويلات من أجل تحديد الأموال الغير مشروعة، والأموال المهرّبة والمودعين الذين استفادوا من معاملةٍ تفضيليّة، خاصة بعد تشرين الأول/أكتوبر 2019 ومن ضمنهم أصحاب الحسابات الائتمانيّة. كما يمكن ربط التعويضات بالأموال المُحصّلة بموجب تعقّب عمليّات الإثراء غير المشروع.
يجب إقرار قانون إعادة هيكلة القطاع المصرفي بشكلٍ عاجلٍ، على أنّ يحترم المبادىْ المذكورة أعلاه، بما يسمح ببناء قطاعٍ مصرفيّ سليم، ويجب أنّ يقترن أيضًا بمراجعة جودة أصول كلّ مصرف على حِدة، وأنّ يترافق مع إصدار قانونَين إضافيّين، هما: إلغاء السريّة المصرفيّة وفرض ضوابط على رأس المال. عامل الوقت أساسي، خصوصًا أنّ امكانية تبنّي حلولٍ عادلةٍ ومُمكنةٍ، على حدّ سواء، تتضائل يومًا بعد يوم.
يجب فصل تعويض المودعين عن مسألة الأصول العامّة، التي تبقى سبل إدارتها أولويّة رئيسيّة في المرحلة المقبلة.
بمعزل عن الجدل الدائر حول توزيع الخسائر، لا تزال عمليّة إصلاح إدارة الأصول العامّة أولويّة رئيسيّة، ويجب الفصل بين المسألتين. من الضروري إجراء مراجعةٍ استراتيجيّةٍ للأصول العامّة لإنشاء نماذج أعمال وحوكمة تتسم بالفعاليّة والاستدامة وبعيدة من منطق الاستيلاء على مقدّرات الدولة، وهو ما يسهم بتعظيم مساهمتها في الاقتصاد والمجتمع. يُعدُّ هذا النهج عنصرًا رئيسيًّا في التعديل المالي المُلحّ، ورافعةً للتأثيرات غير المباشرة على القطاعات الاقتصاديّة المُرتبطة به، عدا أنّه يولّد عوائد أكبر من بيع الأصول في ظلّ ضائقة اقتصاديّة.
تتضمّن إدارة الأصول العامّة مجموعة متنوّعة من الخيارات، من التشغيل المباشر إلى الشراكات بين القطاعين العامّ والخاصّ وصولًا إلى الخصخصة. تختلف هذه الإدارة بناءً على معايير عدّة، بما فيها طبيعة الأصول المعنية، والبيئة القطاعيّة، والاقتصاد الكلّي والسياق المالي والإطار القانوني. لا يوجد نهجٌ واحدٌ مناسبٌ لكلّ شي. مع ذلك، من الضروري فصل الإدارة والملكيّة عن صنع السياسات والقرارات التنظيميّة. يُعدّ إنشاء صندوقٍ للثروة الوطنيّة ، وصيّ على أصول الدولة، وتُوجَّه عائداته إلى الخزينة العامّة، خيارًا ينطوي على إيجابيّاتٍ وسلبيّاتٍ يجب قياسها ووضعها في سياقها بعنايةٍ. تشتمل الحجج المؤيّدة تحسين إدارة هذا الصندوق، من دون إغفال المخاطر التي قد تَنتُج عن وجود عيب أو ثغرة في إنشائه قد تؤدّي إلى تعطّله.
لا يمكن خصخصة الأصول العامّة في ظلّ إطار الحوكمة الحالي. تشمل المُتطلّبات الأساسيّة وجود بيئةٍ تنظيميّةٍ سليمةٍ، وأطرًا لمكافحة الفساد وتعزيز المنافسة العادلة، وفعاليّةً في أسواق رأس المال، وشفافيّةً في إدارة المناقصات العامّة. في غياب هذه الشروط المُسبقة، من المحتمل أن يؤدّي بيع الأصول العامّة إلى استمرار سيطرة السلطة القائمة على مقدّرات الدولة. (كلنا إرادة)
مصدر الخبر
للمزيد Facebook