الثورة والانقلاب العسكري بعيون سكان جزيرة توتي السودانية
كيف يتفاعل سكان جزيرة توتي مع الثورة السودانية والانقلاب العسكري؟ كيف يرون مستقبل السودان ومستقبل جزيرتهم في ظل الفراغ السياسي وحكم المجلس العسكري؟ فرانس24 تجولت في أزقة هذه الجزيرة الزراعية الجميلة والتي حاول الرئيس المخلوع عمر البشير شراء أراض فيها لبناء أبراج سكنية وسياحية. لكن روح الثورة كانت له بالمرصاد..
بعيدا عن ضجيج العاصمة الخرطوم وازدحام شوارعها والغبار الذي يرتفع عاليا في سمائها، يتابع سكان جزيرة توتي الأحداث السياسية التي تشهدها السودان بنوع من الحذر ومع وضع مسافة بينهم وبين هذه الأحداث.
تقع هذه الجزيرة الساحرة والتي يقصدها الثوار والعشاق في آن واحد في ملتقى النيلين الأزرق والأبيض، وسط العاصمة الخرطوم وتتوسط المناطق الثلاث المكونة للعاصمة السودانية، وهي الخرطوم وأم درمان والبحري.
هي منطقة زراعية بامتياز تكتسيها الخضرة خاصة عند الأطراف وتمتد على بساتين واسعة ومتلاصقة مع مياه النيل المتدفقة دون انقطاع.
المزارعون هم السكان الأصليون لهذه الجزيرة التي يعود وجودها إلى أكثر من 500 عاما. عرفت صراعات عديدة مع المستعمر البريطاني في القرن الـ19 ثم مع نظام الرئيس المخلوع عمر البشير الذي كان يريد شراء أراض في هذه الجزيرة بالقوة لبناء أبراج سكنية وفنادق سياحية أو لبيعها لمستثمرين خليجيين، غير أن السكان رفضوا ودخلوا في صراع مع النظام السابق ومع سياسيين ومستثمرين، كانوا يملكون نفوذا كبيرا في حزب المؤتمر الوطني الذي أسس قواعد له في الجزيرة، وحاول أن يتجذر فيها لكي يستولي عليها ويطرد سكانها الأصليين.
“حكومة حمدوك من الحكومات الممتازة حقيقة”
لكن “جميع المحاولات بائت بالفشل”، يقول هادي فك إدريس (71 عاما) وهو مزارع ولد في نفس الجزيرة وتأصل فيها. فبالنسبة له “ثورة 2019 لم تحقق بعد كلها أهدافها لأنها لم تملك الوقت الكافي من أجل ذلك”.
وقال لفرانس24 “الحكومة السابقة (يقصد حكومة عبد الله حمدوك المقالة) هي من الحكومات الممتازة حقيقة. لكن الخراب والدمار الذي لحق بالسودان منذ سنوات كان كبيرا إلى درجة أنهم لم يتركوا له المجال في الاستمرار بعمله كرئيس حكومة. فعلى سبيل المثال، حمدوك حقق إنجازا كبيرا في غضون وقت قصير إذ تمكن من إخراج السودان من قائمة الدول الإرهابية. وهذا شيء مهم يستحق الذبائح” احتفالا به.
أما في مجال الزراعة، فلقد انتقد نظام البشير السابق الذي لم “يقدم الدعم للمزارعين” بحسبه بل “تركنا بمفردنا نواجه السوق السوداء والسماسرة وارتفاع الأسعار فضلا عن غياب الأمن في المزارع، ما دفع بالعديد من المزارعين إلى ترك المهنة والبحث عن عمل آخر في المدينة”.
أصوات من داخل #السودان. علي فك إدريس (71عاما) مزارع في جزيرة توتي لفرانس 24 « حياة المزارعين صعبة جدا والوضع تأزم اكثر بعد الثورة. ونعاني من نقص الامن ومن السوق السوداء” pic.twitter.com/tK5pY1JcF2
— Tahar Hani (@taharhani) November 10, 2021
السودان
ويتوقع هذا المزارع أن يشارك سكان الجزيرة في “مليونية” السبت، لكن ليس بأعداد كبيرة، لأن “فقدان بعض المنظمين لهذه المسيرة للمصداقية قتلت عندهم الحماس. وقال: “المظاهرات، لو تأتي بنتيجة فذلك أفضل. نريد أن نرى بعيوننا ماذا أتت به المظاهرات، وإذا لم نر هذا، فنحن لا نؤمن بالتغيير”.
تحفظات حول طريقة إدارة المرحلة الانتقالية ما بعد ثورة 2019
وندد بشكل غير مباشر بـ”الانقلاب العسكري” الذي أطاح برئيس الوزراء عبد الله حمدوك قائلا “لم يعطوا له الفرصة (هو يقصد المجلس العسكري) لكي يصلح أمور البلاد ولم يعطوا لنا الفرصة أيضا لكي نحكم عليه. لكن رأينا أنه نجح جزئيا في إصلاح السياسة الخارجية. لكن لسوء حظه، لم يجد متعاونين معه في الحكومة وبخارجها لكي يتفرغ لإصلاح الداخل السوداني”، معترفا في الوقت نفسه أن “حكم العسكر لا يمكن أن ينجح في السودان بسبب طبيعة السوداني التي لا تقبل مثل هذا الحكم”.
غادرنا البساتين والأراضي الزراعية الخضراء والجمال والمعز وأصوات العصافير التي تزغرد دون انقطاع في الحدائق لكي نتجول في قلب جزيرة توتي وفي أزقتها الضيقة وغير النظيفة.
وبالرغم من أن الجزيرة زراعية بامتياز، إلا أن أعدادا كبيرة من سكان توتي يعملون كموظفين في مؤسسات الدولة السودانية وفي شركات اقتصادية.
التقينا بعبد الرحمان حسين، طالب بجامعة الخرطوم في كلية هندسة المساحة، وأحد أعضاء جمعية “المبادرة السياسية من أجل التغيير” التي تأسست في منتصف العام 2020.
هذه الجمعية أبدت “تحفظات” حول طريقة إدارة المرحلة الانتقالية وبالأخص حول التعيينات على رأس الدولة كمجلس السيادة” كما يقول. ودعا “إلى إصلاح المرحلة الانتقالية وتشكيل جهاز دولة راسخ قادر على إدارة هذه المرحلة. يكون لديه نوع من الشرعية ليبني مؤسسات حقيقية تأخرت كثيرا”.
” إعلان حرية والتغيير كان عبارة عن ثلاث نقاط. لا يمكن بناء دولة بثلاث نقاط”.
وحمّل عبد الرحمان حسين مسؤولية التأخير في بناء مؤسسات تمهد لدولة حديثة الطرفين، أي المجلس العسكري وقوى إعلان الحرية والتغيير. وشرح لفرانس24 “التحالف الذي شكل كان تحالفا ضعيفا.
عبد الرحمان حسين:” كنا نعتقد بمجرد يتنحى البشير، السودان سيتحول إلى جنة. لكن البشير كان جالسا وتحت كرسه مشاكل كثيرة. فقام وانتفضت المشاكل إلى السطح واصبح التحدي اكبر” #السودان pic.twitter.com/gqmNOBSHCo
— Tahar Hani (@taharhani) November 11, 2021
السودان
كان هناك نوع من الابتزاز والابتزاز المضاد والذي لم يسمح لأي طرف أن يتبع خطوات تسير نحو الانتقال السياسي” في السودان.
وتابع “العسكريون يخشون المدنيين لأنهم يملكون ملفات لها علاقة بفض الاعتصامات وبالعنف ويمكن أن تورطهم في المستقبل. أما المدنيون فهم يخافون أيضا من العسكريين بسبب التهديد الاستخباراتي والأمني. كل هذا أدى إلى وجود تعاون سلبي بينهما. ما جعلهم يتخلون عن مطالب الشارع السوداني. العلاقة بين العسكر والمدنيين كانت هشة وغير واضحة”.
وفي سؤال هل أنت متفائل بالمستقبل؟، أجاب ضاحكا “طبعا لا. ما لم يكن هناك إصلاح جذري في شكل السلطة الحالي. لا أظن التغيير سيحدث. المشكلة الرئيسية التي عانت منها ثورة ديسمبر هي عدم امتلاكها لمشروع سياسي واضح. إعلان حرية والتغيير كان عبارة عن ثلاث نقاط، لكن لا يمكن أن نبني دولة بثلاث نقاط”.
وأنهى حديثه قائلا “كنا نعتقد أنه مجرد أن يتنحى البشير، السودان سيتحول إلى جنة. لكن البشير كان جالسا وتحت كرسيه مشاكل كثيرة. فبمجرد أنه قام من عليها، فاضت المشاكل إلى السطح وأصبح التحدي أصعب”.
“سنتظاهر لغاية العودة إلى ما قبل 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي”
تحليل لا تتقاسمه نائمة غرشي، وهي مناضلة في لجان الثورة بجزيرة توتي. قررت المشاركة في “مليونية” السبت “لدعم كل الشعب ضد الانقلاب العسكري لأنه ليس تصحيحا للثورة كما يقولون بل انقلابا”.
وقبل مظاهرة السبت، شاركت هذه الشابة في مظاهرات عديدة نظمت على مستوى الجزيرة. وهي تطالب “بإطلاق سراح المعتقلين والعودة إلى المسار الديمقراطي”. كما أنها لا تدعو إلى العودة إلى ما قبل 25 تشرين الأول/أكتوبر الماضي فحسب، بل أيضا” إلى محاسبة المتورطين في هذا الانقلاب العسكري“.
كما عبرت عن عزيمتها في مواصلة التظاهر والتعبئة السياسية لغاية أن تتحقق أهداف الثورة.
وقالت لفرانس24 “لن نتوقف عن الاحتجاج، بل سننظم مواكب جديدة وسنضغط أكثر على الجيش لإرغامه على إعادة تسليم السلطة للمدنيين. أنا أدرك أن الوضع في السودان لن يتغير خلال حياتي، لكنني أناضل لكي يعيش أولادي وأحفادي حياة أحسن وكريمة”.
واعتبرت نائمة غرشي أن الجيش أخطأ كثيرا عندما قام بـ”الانقلاب العسكري“. “كان عليه فقط أن يجلس على طاولة المحادثات لمعالجة المشاكل مع المدنيين. لماذا اعتقل الناس؟ لماذا استخدم العنف ضدهم؟ هو ينادي بالحرية والسلامة، لكن أين هي الحرية والسلامة؟”.
وستكون نائمة غرشي في مقدمة المظاهرة وسترفع صوتها من أجل عودة الحكومة المدنية وتسليم العسكر الحكم للمدنيين. كما تتوقع أن تكون المشاركة مرتفعة بفضل جدول التصعيد الذي اتفق عليه تجمع المهنيين السودانيين واللجان الثورية”.
هل توقف الزمن في جزيرة توتي؟
وفي انتظار “مليونية” السبت، تعيش جزيرة توتي في نوع من الخمول، كأنها غير معنية كثيرا بما يحدث في السودان.
هل لأن سكانها مسالمون كما قال المزارع هادي فك إدريس، أم لأنهم تعبوا من المظاهرات والوعود الزائفة. فبعدما ناضلوا لكي لا يستولي النظام السابق على أراضيهم الخصبة والجميلة، يحاولون اليوم العيش بعيدا عن الارتدادات السياسية التي تأتي من المدن والأحياء الشعبية المجاورة التي تعتبر قلب الثورة، على غرار البحري وأم درمان والعاصمة الخرطوم ورغم أن جزيرة توتي تتوسط كل هذه المدن.
لكن في توتي جو مختلف عن باقي الأماكن السودانية الأخرى. شوارعها هادئة ومنازلها قديمة، بعضها بنيت بـ”التوب”. الناس يقصدون ضفافها ويتمتعون بمياهها. فهناك من يأتي ليسبح ومن يأتي لتناول “الشيشة” ويستمتع بالمنظر الخلاب جدا.
على ضفاف النيل الازرق في جزيرة توتي الساحرة، شبان يغنون الحب المستحيل لنسيان همومهم اليومية والازمة الاقتصادية والسياسية التي تمر بها #السودان فضلا عن غياب الأفق pic.twitter.com/EMyevuYEV8
— Tahar Hani (@taharhani) November 10, 2021
السودان
جزيرة توتي هي أيضا معقل للعشاق الذين يأتون من كل مكان ويجلسون على كراسي بلاستيكية مزينة بألوان مختلفة ومياه النيل تلامس أرجلهم. لا شرطة ولا أمن يزعجهم سوى حنين وأنغام الموسيقى الأفريقية ورائحة “الشيشة” التي تفوح من أماكن متفرقة.
كأن الزمن توقف ليترك السياسة والمظاهرات والعصيان المدني والمتاريس لسكان الأحياء الشعبية والمدن الكبرى. في جزيرة توتي، الحب غالبا ما يتغلب على السياسية..
طاهر هاني، موفد فرانس24 إلى السودان
//platform.twitter.com/widgets.js
مصدر الخبر
للمزيد Facebook