حزب الله يرفض التفاوض.. للصبر حدود والتزامات 1701 ليست أبدية

لكن هذه الخطوة لم تمرّ بلا ضجة ولا بلا شكوك. فهناك من يرى فيها جزءاً من سلسلة تنازلات متدحرجة تقدمها الحكومة اللبنانية تحت وطأة الضغوط الدولية، من دون أن تحصل في المقابل على أي مكسب سياسي أو أمني أو ميداني. والأسوأ أن بعض القوى يعتبر أنّ الحكومة رمت هذه الورقة على الطاولة من دون رؤية واضحة، ومن دون أن تراعي أنّ لجنة الميكانيزم نفسها، منذ تشكيلها، لم تنجح في تحقيق أي من الأهداف التي نصّت عليها: لا انسحاب إسرائيليا، ولا تبادل أسرى، ولا حتى خريطة طريق للإعمار أو لوقف الخروقات اليومية.
إسرائيل من جهتها لا تخفي نواياها. فالضربات الجوية مستمرة رغم اتفاق وقف الأعمال العدائية، وسوف تبقى على وتيرتها في إطار سياسة «التفاوض تحت النار» التي تعتمدها تل أبيب كلما أرادت فرض شروط على خصومها. وما تريده إسرائيل يتمثل بنزع سلاح حزب الله، ودفع الدولة اللبنانية إلى القيام بذلك عبر جرّ الجيش اللبناني إلى المداهمات والمصادرات داخل القرى، وهو أمر يدرك الجيش استحالته ويعرف أنّ الذهاب إليه سيقود البلاد إلى سيناريوهات لا يمكن احتواؤها. لذلك يرفض الجيش الانزلاق إلى هذا المسار مهما اشتدّ الضغط الخارجي أو تعددت أشكاله.
في المقابل، يردّ حزب الله بطريقة مزدوجة تجمع بين الرسالة السياسية والصلابة الميدانية. فهو يعتبر، بحسب مصادره أنّ بعض القوى في الداخل تصوغ مواقفها وفق حسابات لا تعبّر عن حقيقة المشهد ولا عن طبيعة الصراع. ويشير بوضوح إلى أنّ رئيس الجمهورية تشاور في موضوع تعيين كرم مع أطراف محددة، بينما هو ــ أي الحزب ــ لم يكن على علم بالتفاصيل. ويضع الخطوة في إطار «التنازل المجاني» الذي لم ينتج شيئاً في السابق ولن ينتج شيئاً اليوم. فكل اجتماعات الميكانيزم السابقة لم تغيّر في الواقع الميداني ولا في السلوك الإسرائيلي، وكلها انتهت إلى أوراق لا قيمة لها.
أما على مستوى المواجهة، فيدرك الحزب، وفقق المصادر، أنّ إسرائيل، رغم تفوقها الجوي، عالقة في مأزق بريّ لم تستطع تجاوزه. وتقديراته أنّ تل أبيب لو كانت قادرة على شنّ حرب برية على لبنان لفعلت ذلك منذ الأسابيع الأولى، لكنها تعرف أنّ كلفتها ستكون هائلة وأن نتائجها ليست مضمونة. لذلك تكتفي بحرب جوية قاسية محسوبة الزمن والوتيرة، لكنها عاجزة عن تغيير المعادلة على الأرض. وفي هذا السياق، يقول الحزب إنه انتصر ميدانياً وخسر جوياً، لكنّ الخسارة الجوية لا تمنع الردّ ولا ترسم سقفاً سياسياً نهائياً.
ويضيف الحزب ، كما تقول المصادر، أنه التزم بالقرار 1701 التزاماً كاملاً: لا قصف للمستوطنات، وانسحاب كامل من جنوب الليطاني. لكن هذا الالتزام ليس مفتوحاً بلا حدود. فإذا استمر العدوان وتواصلت الغارات، فسيسقط الغطاء السياسي الذي يضبط إيقاع المعركة، وقد يجد الحزب نفسه «حرّاً» في تعديل قواعد الاشتباك. بمعنى أوضح: أمن المستوطنات مضمون فقط بقدر التزام إسرائيل بالتهدئة، والاستمرار في التجاوزات وفشل الحكومة في تحقيق الانسحاب الإسرائيلي ووقف الانتهاكات سيعيد الأمور إلى مربع مختلف، ولن يقف الحزب مكتوف الأيدي إلى ما لا نهاية.
هذا الموقف يفتح الباب أمام قراءة أعمق: فلبنان الرسمي يدخل مرحلة دقيقة تحاول فيها الحكومة أن توازن بين الضغوط الدولية وحجم الواقع في الجنوب، بينما يشعر الحزب بأنه يُدفَع تدريجياً إلى منطقة اختبار صبره وحدوده. ومع أنّ الحزب يؤكد دعمه لبناء الدولة وسيادتها على الجنوب كاملاً، فإنه يرفض أي نقاش في السلاح شمال الليطاني قبل تحقيق ثلاث أولويات: الانسحاب الإسرائيلي، عودة الأسرى، وإطلاق مسار إعادة الإعمار. وبعد ذلك فقط يمكن الانتقال إلى البحث في استراتيجية دفاعية تضمن حماية الجيش والشعب وتثبيت الأمن الوطني.
وبينما يتقدّم بعض المسؤولين اللبنانيين بخطوات يعتبرونها واقعية، يراها آخرون انحناءً أمام عاصفة الضغط الخارجي، من دون أن يقابلها أي احترام إسرائيلي لسيادة لبنان أو لحقوقه. فالدولة تبدو وكأنها تتقدم من تنازل إلى آخر، والنتائج ما تزال صفراً. وفي المحصلة، يبدو المشهد كأنه سباق بين دبلوماسية متعبة وضغط إسرائيلي متصاعد، وبين دولة تسعى لشراء الوقت وحزب يلوّح بأنّ للصبر حدوداً. فالتصعيد قد يعود في أي لحظة، لأن تأجيله لا يعني إلغاءه، ولأن إسرائيل في حساباتها لا تزال تعتبر أنّ الضغط العسكري هو الطريق الأسرع لفرض شروطها. وفي هذه اللحظة الحرجة، تبدو الساحة اللبنانية أمام مفترق طرق: إمّا حلول حقيقية تحفظ السيادة وتوقف النزف، وإمّا انزلاق إلى مواجهة أوسع يُعاد معها خلط الأوراق على نحو يتجاوز قدرة أحد على ضبطه.
مصدر الخبر
للمزيد Facebook





