آخر الأخبارأخبار محلية
لبنان يدخل مرحلة التفاوض المدني مع إسرائيل: خطوة تقنية أم تحوّل استراتيجي؟

بدا الاجتماع الأخير في الناقورة للجنة الارتباط أو “الميكانيزم” الخاص بوقف إطلاق النار، مختلفًا عن كلّ ما سبقه من اجتماعات على امتداد العام المنصرم، ليس بسبب المخاوف من العودة إلى الحرب، مع تصاعد التهديدات الإسرائيلية ووصولها إلى ذروة غير مسبوقة في الأيام القليلة الماضية، ولكن قبل ذلك، بسبب الشكل، مع انتقال لبنان وإسرائيل إلى أول مفاوضات ذات طابع مدني منذ أكثر من أربعة عقود.
فللمرة الأولى منذ أكثر من 40 عامًا، يترأس وفد لبنان شخصية مدنية، هو السفير السابق سيمون كرم، في خطوة لافتة أخرجت الملف من العباءة العسكرية التي حكمته طوال السنوات الماضية، وأعادت فتح نقاش واسع حول ما إذا كانت البلاد أمام منعطف جديد في إدارة العلاقة مع تل أبيب، علمًا أنّ هذا التطور لم يأتِ من فراغ، وجاء بعد اتصالات كثيرة، دخل على خطها رئيس الجمهورية جوزاف عون، الذي كان أول من طرح مبدأ “التفاوض”.
وفيما كانت لافتة الإشادة الإسرائيلية بما جرى، خصوصًا على مستوى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، سعى رئيس الحكومة نواف سلام سريعًا إلى وضع أُطر ضابطة له، مشددًا على أنّ ما يجري ليس مفاوضات سلام ولا مقدّمة لتطبيع، بل محاولة لحماية لبنان من ضغوط الحرب وتثبيت خطوط وقف إطلاق النار. فما الذي يعنيه هذا الفصل بين الشكل السياسي والمضمون الأمني، وهل تبقي هذه المفاوضات الجنوب خارج دائرة الاشتعال؟
مفاوضات “مدنية”.. لماذا الآن؟
لا شكّ أنّ الانتقال إلى تمثيل مدني في المفاوضات ليس تفصيلًا شكليًا، خصوصًا أنّ اجتماعات لجنة “الميكانيزم” قائمة عمليًا منذ أكثر من عام، إلا أنه يعكس تغيّرًا في كيفية التعاطي الدولي مع الساحة اللبنانية. فالمجتمع الدولي، وخصوصًا واشنطن، يحتاج اليوم إلى بوابة سياسية واضحة للتفاهم مع لبنان، بعيدًا من الاعتبارات العسكرية التي تحكم عمل اللجان السابقة. ولعلّ رئيس الوفد الجديد، سيمون كرم، يقدّم هذا النموذج، بوصفه شخصية سياسية-دبلوماسية قادرة على التفاوض ضمن هامش مدني، من دون أن تُحسب على أي محور داخلي.
وليس خافيًا على أحد أيضًا أنّ إسرائيل من جهتها قرأت الخطوة على أنّها “فرصة”، ولا سيما أنّ تصريحاتها الأخيرة حول “أجواء إيجابية” جاءت بالتوازي مع محاولتها دفع النقاش نحو ملفات تتجاوز وقف النار بحسب ما تمّ تسريبه، ومنها المنطقة العازلة، وسلاح حزب الله، وترسيم الحدود البرية والبحرية. وهذا ما يفسّر الحماسة الإسرائيلية لإلباس اللقاءات طابعًا “مدنيًا” يسهّل الانتقال إلى ملفات اقتصادية وإنمائية، لا يمكن للمفاوض العسكري وحده إدارتها.
أما لبنان، الذي يعيش تحت وطأة الحرب سواء في جولتها الأولى، أو في الجولة الثانية التي لا يكفّ الإسرائيليون عن التلويح بها، فيُدرك أنّ خفض التوتر جنوبًا ضرورة وليس خيارًا، وهو يريد أن يفعل كلّ ما يستطيع لتجنّب المعركة. من هنا، تُقرَأ المشاركة المدنية على أنها محاولة لإظهار الانفتاح على مخاطبة المجتمع الدولي، من دون الاعتراف سياسيًا بإسرائيل، ومن دون خرق السقوف التقليدية التي فرضتها القوى الداخلية المتحفظة على أي تغيير في قواعد الاشتباك.
بين “الواقعية السياسية” والضغوط
كما في كلّ الملفات، تتفاوت القراءات الداخلية لهذه الخطوة عن الرواية المتداولة في الخارج، ولكن أيضًا في ما بين اللبنانيين أنفسهم. فبالنسبة لكثيرين في بيروت، المفاوضات المدنية هي تكتيك مرحلي لامتصاص الضغوط الأميركية والإسرائيلية، لا أكثر، علمًا أنّ “حزب الله” نفسه المتحفّظ على فكرة المفاوضات، لن يسعى إلى تعطيل أيّ مسار يعتقد أنه يمكن أن يمنع حربًا واسعًا لن تربكه فحسب، بل قد تؤدّي إلى تراكم المزيد من الخسائر.
في المقابل، فإنّ ما تريده إسرائيل من هذه المفاوضات مختلف، وهو ما يفسّر “رفع الأسقف” الذي عملت عليه طيلة الفترة الماضية، فالمفاوضات المدنية تبدو هنا جزءًا من استراتيجية تعتمدها إسرائيل من أجل فرض شروط “تسوية أمنية” طويلة الأمد. ويقول العارفون في هذا السياق إنّ تل أبيب ترى في هذه الجولة فرصة لتحقيق مكاسب كانت بعيدة المنال قبل سنوات، ليس على المستوى السياسي، ولكن الاقتصادي أيضًا.
وبين هذا وذاك، يبقى الدور الأميركي الأكثر حساسية. فالوساطة التي تقودها الولايات المتحدة منذ عهد الإدارة السابقة، تتحرك اليوم على خيط رفيع بين تهدئة ميدانية مطلوبة وبين دفع لبنان لتنازلات تدريجية. ولعلّ هذه المفاوضات تشكّل “الفرصة الأخيرة” لإعادة وصل ما انقطع، بعدما ظهرت “الخيبة الأميركية” في الآونة الأخيرة ممّا وصفه البعض في واشنطن بمناورات الحكومة اللبنانية، وسط اعتقاد بأنّ هدف واشنطن بعيد المدى قد يكون إدخال لبنان في مسار الاتفاقات الإبراهيمية.
في المحصّلة، لا شكّ أنّ المفاوضات المدنية هي أكثر من مجرد تفصيل إداري، ولو أنّ من المبالغة القول إنّها تشكّل انقلابًا في هوية الصراع، أو حتى مقدّمة مباشرة لتسوية سياسية، على المقاس الأميركي أو الإسرائيلي. الأكيد، حتى الآن، أنّ لبنان يدخل من خلالها مرحلة جديدة، قد تكون مرحلة “اختبار”، تُستخدم فيها الأدوات الدبلوماسية لكسب الوقت ومنع الانهيار، فيما تستثمر إسرائيل اللحظة لتوسيع شروطها. بهذا المعنى، هذ خطوة واقعية فرضتها الضغوط، لكنها خطوة محفوفة بأسئلة كبرى… قد تحدد مستقبل الحدود لعقود مقبلة!
Advertisement
فللمرة الأولى منذ أكثر من 40 عامًا، يترأس وفد لبنان شخصية مدنية، هو السفير السابق سيمون كرم، في خطوة لافتة أخرجت الملف من العباءة العسكرية التي حكمته طوال السنوات الماضية، وأعادت فتح نقاش واسع حول ما إذا كانت البلاد أمام منعطف جديد في إدارة العلاقة مع تل أبيب، علمًا أنّ هذا التطور لم يأتِ من فراغ، وجاء بعد اتصالات كثيرة، دخل على خطها رئيس الجمهورية جوزاف عون، الذي كان أول من طرح مبدأ “التفاوض”.
وفيما كانت لافتة الإشادة الإسرائيلية بما جرى، خصوصًا على مستوى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، سعى رئيس الحكومة نواف سلام سريعًا إلى وضع أُطر ضابطة له، مشددًا على أنّ ما يجري ليس مفاوضات سلام ولا مقدّمة لتطبيع، بل محاولة لحماية لبنان من ضغوط الحرب وتثبيت خطوط وقف إطلاق النار. فما الذي يعنيه هذا الفصل بين الشكل السياسي والمضمون الأمني، وهل تبقي هذه المفاوضات الجنوب خارج دائرة الاشتعال؟
مفاوضات “مدنية”.. لماذا الآن؟
لا شكّ أنّ الانتقال إلى تمثيل مدني في المفاوضات ليس تفصيلًا شكليًا، خصوصًا أنّ اجتماعات لجنة “الميكانيزم” قائمة عمليًا منذ أكثر من عام، إلا أنه يعكس تغيّرًا في كيفية التعاطي الدولي مع الساحة اللبنانية. فالمجتمع الدولي، وخصوصًا واشنطن، يحتاج اليوم إلى بوابة سياسية واضحة للتفاهم مع لبنان، بعيدًا من الاعتبارات العسكرية التي تحكم عمل اللجان السابقة. ولعلّ رئيس الوفد الجديد، سيمون كرم، يقدّم هذا النموذج، بوصفه شخصية سياسية-دبلوماسية قادرة على التفاوض ضمن هامش مدني، من دون أن تُحسب على أي محور داخلي.
وليس خافيًا على أحد أيضًا أنّ إسرائيل من جهتها قرأت الخطوة على أنّها “فرصة”، ولا سيما أنّ تصريحاتها الأخيرة حول “أجواء إيجابية” جاءت بالتوازي مع محاولتها دفع النقاش نحو ملفات تتجاوز وقف النار بحسب ما تمّ تسريبه، ومنها المنطقة العازلة، وسلاح حزب الله، وترسيم الحدود البرية والبحرية. وهذا ما يفسّر الحماسة الإسرائيلية لإلباس اللقاءات طابعًا “مدنيًا” يسهّل الانتقال إلى ملفات اقتصادية وإنمائية، لا يمكن للمفاوض العسكري وحده إدارتها.
أما لبنان، الذي يعيش تحت وطأة الحرب سواء في جولتها الأولى، أو في الجولة الثانية التي لا يكفّ الإسرائيليون عن التلويح بها، فيُدرك أنّ خفض التوتر جنوبًا ضرورة وليس خيارًا، وهو يريد أن يفعل كلّ ما يستطيع لتجنّب المعركة. من هنا، تُقرَأ المشاركة المدنية على أنها محاولة لإظهار الانفتاح على مخاطبة المجتمع الدولي، من دون الاعتراف سياسيًا بإسرائيل، ومن دون خرق السقوف التقليدية التي فرضتها القوى الداخلية المتحفظة على أي تغيير في قواعد الاشتباك.
بين “الواقعية السياسية” والضغوط
كما في كلّ الملفات، تتفاوت القراءات الداخلية لهذه الخطوة عن الرواية المتداولة في الخارج، ولكن أيضًا في ما بين اللبنانيين أنفسهم. فبالنسبة لكثيرين في بيروت، المفاوضات المدنية هي تكتيك مرحلي لامتصاص الضغوط الأميركية والإسرائيلية، لا أكثر، علمًا أنّ “حزب الله” نفسه المتحفّظ على فكرة المفاوضات، لن يسعى إلى تعطيل أيّ مسار يعتقد أنه يمكن أن يمنع حربًا واسعًا لن تربكه فحسب، بل قد تؤدّي إلى تراكم المزيد من الخسائر.
في المقابل، فإنّ ما تريده إسرائيل من هذه المفاوضات مختلف، وهو ما يفسّر “رفع الأسقف” الذي عملت عليه طيلة الفترة الماضية، فالمفاوضات المدنية تبدو هنا جزءًا من استراتيجية تعتمدها إسرائيل من أجل فرض شروط “تسوية أمنية” طويلة الأمد. ويقول العارفون في هذا السياق إنّ تل أبيب ترى في هذه الجولة فرصة لتحقيق مكاسب كانت بعيدة المنال قبل سنوات، ليس على المستوى السياسي، ولكن الاقتصادي أيضًا.
وبين هذا وذاك، يبقى الدور الأميركي الأكثر حساسية. فالوساطة التي تقودها الولايات المتحدة منذ عهد الإدارة السابقة، تتحرك اليوم على خيط رفيع بين تهدئة ميدانية مطلوبة وبين دفع لبنان لتنازلات تدريجية. ولعلّ هذه المفاوضات تشكّل “الفرصة الأخيرة” لإعادة وصل ما انقطع، بعدما ظهرت “الخيبة الأميركية” في الآونة الأخيرة ممّا وصفه البعض في واشنطن بمناورات الحكومة اللبنانية، وسط اعتقاد بأنّ هدف واشنطن بعيد المدى قد يكون إدخال لبنان في مسار الاتفاقات الإبراهيمية.
في المحصّلة، لا شكّ أنّ المفاوضات المدنية هي أكثر من مجرد تفصيل إداري، ولو أنّ من المبالغة القول إنّها تشكّل انقلابًا في هوية الصراع، أو حتى مقدّمة مباشرة لتسوية سياسية، على المقاس الأميركي أو الإسرائيلي. الأكيد، حتى الآن، أنّ لبنان يدخل من خلالها مرحلة جديدة، قد تكون مرحلة “اختبار”، تُستخدم فيها الأدوات الدبلوماسية لكسب الوقت ومنع الانهيار، فيما تستثمر إسرائيل اللحظة لتوسيع شروطها. بهذا المعنى، هذ خطوة واقعية فرضتها الضغوط، لكنها خطوة محفوفة بأسئلة كبرى… قد تحدد مستقبل الحدود لعقود مقبلة!
مصدر الخبر
للمزيد Facebook





