آخر الأخبارأخبار محلية

قرار نصّار بإحياء ملفات الاغتيالات : خطوة قضائية بمفاعيل سياسية؟

مع أنّ قرار وزير العدل عادل نصّار بتعيين محققين عدليين في قضايا “الاغتيالات السياسيّة” شكّل مفاجأة قضائية من الطراز الرفيع، إلا أنه بدا في الوقت نفسه محاولة جدّية لإعادة الحياة إلى مسار قضائي طواه النسيان منذ سنوات، خصوصًا أنّه جاء بعد أيام على الزيارة التي أجراها وفد قضائي سوري إلى بيروت، أُثير خلالها الملف للمرة الأولى من باب طلب لبنان التعاون من جانب السلطات السورية الجديدة لإحراز تقدّم ما في هذا الإطار.


Advertisement










 
من حيث الشكل، يندرج القرار في إطار ملء الشواغر العدلية، إذ كان الوزير نصّار قد طلب من مجلس القضاء الأعلى لوائح القضايا المحالة إلى المجلس، التي توقفت التحقيقات فيها منذ سنوات، بعدما أُحيل القضاة المعيّنون على رأسها إلى التقاعد أو تسلّموا ملفات أخرى، فشغرت مراكزهم. وعلى هذا الأساس صدرت التعيينات رسميًا، في خطوة انطوت على تقاطع سياسي وقضائي، أتاح تفسيرها على أنها أكثر من مجرد تصحيح إداري.
 
أما من حيث الجوهر، فإن القرار أعاد تحريك ملفات مجمّدة تتعلق بجرائم سياسية لم تُقفل بعد، بعضها يعود إلى مرحلة ما بعد عام 2005 وبعضها الآخر إلى ما قبل ذلك، من دون أن تُستكمل الإجراءات أو تصدر قرارات اتهامية نهائية. لذا، فإن خطوة نصّار أعادت الأضواء إلى قضية العدالة الغائبة، وإلى مدى استعداد الدولة اللبنانية لتفعيل المساءلة في قضايا كانت تُعامل حتى الأمس القريب على أنها “تابوهات” سياسية.
 
معادلات جديدة..
 
يكتسب القرار بعدًا إضافيًا بالنظر إلى تزامنه الزمني مع الزيارة التي قام بها الوفد القضائي السوري إلى بيروت مطلع الشهر الحالي، إذ تفيد المعطيات بأن لبنان طلب رسميًا من الجانب السوري تزويده بمعلومات ووثائق تتعلق ببعض القضايا العالقة، من بينها ملفات اغتيالات سابقة يُشتبه إما بتورّط النظام السوري السابق فيها، أو بارتباطها بمطلوبين يُعتقد أنهم لجأوا إلى الأراضي السورية.
 
ووفق ما نقلته مصادر متابعة، فإن الانطباع الذي تركته الزيارة الأولى من نوعها منذ سنوات هو وجود استعداد سوري مبدئي للانخراط في تعاون قضائي “مضبوط” بعيدًا عن البعد السياسي التقليدي. وهنا يبرز عنصر جديد في مقاربة العلاقة القضائية بين البلدين، خصوصًا أنّ لدى السلطات السورية الجديدة “مصلحة” في التعاون مع لبنان، أولًا لرغبتها في حلّ ملف الموقوفين السوريين في السجون اللبنانية، وثانيًا لمعارضتها المطلقة للنظام السابق.
 
لكنّ هذا المسار، على أهميته، لا يخلو من المحاذير، إذ يرى بعض المراقبين أنّ أي تجاوب سوري قد يُقرأ في الداخل اللبناني وفق الاصطفافات القديمة أو الجديدة، رغم أن الواقع الحالي لم يعد يقوم على الثنائيات السابقة بين هذا المحور أو ذاك. فالنظام السوري اليوم يسعى إلى إعادة التموضع إقليميًا ودوليًا، وقد تجلّى ذلك بانفتاحه الواسع على الغرب، فيما تتعامل القوى اللبنانية مع هذا التوجّه بدرجات متفاوتة من الحذر والانفتاح.
 
الرهان على القضاء؟
 
في المضمون، لا يُعوَّل على أن تفضي التعيينات الجديدة إلى نتائج فورية يمكن البناء عليها، إذ إنّ معظم القضايا المعنيّة تعاني من ضعف في الأدلة، وتقادم في بعض الإجراءات، وتعقيدات قانونية تتصل بصلاحيات المجلس العدلي نفسه. ومع ذلك، فإن الخطوة تحمل دلالة رمزية مهمّة: عودة الدولة إلى تحريك ملفات كانت جُمّدت بفعل الانقسام السياسي، وكان كثيرون قد اعتقدوا أنّها ستبقى مقفلة إلى الأبد.
 
وفي هذا السياق، يرى خبراء قضائيون أنّ الخطوة لا تهدف بالضرورة إلى “حلّ” الملفات القديمة بقدر ما تسعى إلى إعادة تفعيل الجهاز القضائي نفسه. فملفّات الاغتيالات لطالما عكست عجز الدولة عن فرض العدالة، ليس فقط في مواجهة الجريمة، بل في إدارة التحقيق أيضًا. لذلك، فإن إعادة توزيع المحققين وإحياء المسار العدلي قد تمثل محاولة من قبل الوزير والحكومة لاستعادة ثقة المجتمع اللبناني والدولي بالقضاء.
 
يبقى السؤال الأهم: هل سيُكتب لهذه المحاولة أن تتجاوز الطابع الرمزي لتتحوّل إلى مسار فعلي؟ الجواب مرهون بمدى قدرة المحققين العدليين على الوصول إلى معطيات جديدة، وبمدى تجاوب دمشق في التعاون القضائي، من دون أن يتحول الأمر إلى ورقة سياسية في لعبة التوازنات اللبنانية. فإذا نجح هذا المسار في كسر الجمود المزمن، قد تكون هذه المرة الأولى منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري التي يُفتح فيها أفق قضائي جديد أمام مفهوم “العدالة في الاغتيالات”.
 
في المحصلة، يمكن النظر إلى قرار وزير العدل كاختبار مزدوج: اختبار لقدرة القضاء اللبناني على استعادة دوره، واختبار لإمكان قيام تعاون قضائي مع دمشق يبتعد عن الحسابات السياسية. فالبلد الذي اعتاد طيّ ملفات الاغتيالات بالتراضي أو بالنسيان، يجد نفسه اليوم أمام تجربة مختلفة تُعيد النقاش حول حدود العدالة وإمكانية تحصينها من التجاذبات. وإذا نجحت هذه الخطوة في ترجمة النوايا إلى مسار فعلي، فقد تكون بداية لإعادة الاعتبار لفكرة “القضاء المرجع الأخير” في بلدٍ ما زال يبحث عن الدولة قبل أن يبحث عن العدالة.


مصدر الخبر

للمزيد Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى