آخر الأخبارأخبار محلية

كفى شعارات.. احموا أهالي الريف وإلا ضاعوا وضاعت الأرض

لم تعد الزراعة البعلية في لبنان “موسم حظّ” يترنّح بين مطرٍ وافٍ وآخر شحيح. ما يضرب البلاد اليوم تحوّل بنيوي في المناخ: أمطار أقل انتظامًا وتوزيعًا، زخّات قصيرة وعنيفة تتبعها فترات جفاف طويلة، شتاءات دافئة نسبيًا وحرّ يمتدّ في الربيع والصيف. في هذه البيئة الجديدة، يدفع المزارع الذي يعتمد على المطر وحده الكلفة كاملة: إنبات متذبذب، أزهار ضعيفة العقد، ضغط متزايد للآفات، وتربة تُستنزَف مع كل عاصفة قصيرة تجرّ معها الطبقة السطحية بدل أن تشربها الأرض. والنتيجة موسم يتبدّد قبل أن يولد، ومحاصيل تهبط غلالها بما لا يحتمله ميزان الدخل الريفي.



Advertisement















 
الزراعة البعلية ليست تفصيلاً في اقتصاد الهامش. هي شبكة أمان غذائية تمتد من القمح والشعير والعدس والحمّص والزعتر إلى جزء واسع من الزيتون واللوزيات والكروم. وهي أيضاً مورد أساسي لآلاف العائلات في البقاع وعكار والجنوب وحاصبيا والمرتفعات. تراجعها ليس خسارة محصول فحسب، بل تراجع في قدرة لبنان على تأمين سلّته الغذائية، واتساع للفجوة التي يسدّها الاستيراد بالعملة الصعبة، وتفكك إضافي لوظيفة الريف الاقتصادية والاجتماعية. تُفاقم الأزمة المناخية هشاشة نموذجٍ كان يقوم على بساطة الكلفة: بذار وحراثة وحصاد وتخزين. اليوم تضاعفت أثمان المحروقات وقطع الغيار واليد العاملة، بينما تهبط الإنتاجية بسبب الجفاف وتذبذب الأمطار. يغيب التأمين الزراعي الفعّال، ولا تعويض خسائر يعتدّ به، ولا أسعار مضمونة تقف بين المزارع والإفلاس. لذلك يختار كثيرون تقليص المساحات أو ترك أراضيهم “بورًا” انتظارًا لعامٍ أفضل، فيما يحوّل آخرون الحيازات إلى استعمالات غير زراعية أو يتركون الحقول نحو أعمال حضرية متدنية الأجر أو نحو الهجرة.
 
حين يفشل المطر تصبح قطرة الماء مسألة عدالة. في مناطق تُحفر فيها آبار عشوائية تُنهك المخزون الجوفي من دون قياس، وفي أخرى تُمَوَّل مشاريع ريّ متقطّعة لا تتحول شبكاتٍ خدمة فعلية، ينشأ تفاوتٌ صارخ بين بلدات تملك قناة صغيرة أو خزّانًا وبين قرى لا تملك إلا صهاريج مُكلفة… أو لا تملك شيئًا. إدارة الأحواض المائية، منح التراخيص، مراقبة الضخّ، وحماية المياه السطحية والجوفية ملفات تُترك للفوضى؛ والفوضى في زمن الجفاف تصنع فوارق دائمة بين من يروي ومن يعطش.
 
الأثر الاجتماعي صامت لكنه عميق. الزراعة البعلية كانت عماد “العيشة بالمقدور” في الريف: دورة منزلية متكاملة من الزرع والتجفيف والتخزين والتحويلات الصغيرة كالدبس والبرغل والزعتر. حين تتعطل، تتداعى أدوار النساء الريفيات، تتراجع سلاسل القيمة المنزلية، يشيخ الريف وتغيب الخلافة المهنية الزراعية. ومع كل موسم خاسر، يزداد نزيف الشباب من الحقل إلى المدينة، ومن البلد إلى الخارج، فتخسر القرى قوتها العاملة وتضعف قدرتها على تجديد نفسها.
 
المفارقة أن المناخ يتبدّل بينما السياسات لا تتبدّل. نواجه حرارة أعلى وأمطاراً أكثر تقطعًا ببذار حساسة للجفاف، وأصناف غير مُحسّنة، وممارسات لا تراعي حفظ الرطوبة والتربة. الإرشاد الزراعي محدود، وبرامج الدعم مجتزأة، والتسليف متقطع، ولا تأمين مخاطر مناخية يُسند ظهر المزارع حين يخونه الطقس. كما أن سلسلة القيمة من الحقل إلى السوق مفككة: لا عقود شراء مضمونة، ولا مخزون استراتيجيا يستوعب جزءًا من الإنتاج ويضمن حدًا أدنى من السعر.
 
ومع ذلك، يمكن البدء من خطوات واقعية لا تتطلب معجزات. أولها إدخال الريّ التكميلي الذكي منخفض الكلفة: خزانات ترابية أو اسمنتية صغيرة لتجميع سيول الشتاء على مستوى التجمعات الزراعية، شبكات تنقيط تعمل على مضخات بالطاقة الشمسية المشتركة، وحصاد مياه على مستوى المزارع عبر برك مبطّنة وأسقف وجداول دقيقة. ثانيها تسريع اعتماد أصناف وبذار مقاومة للجفاف والحرارة للقمح والشعير والقطاني، وإحياء الأصناف المحلية المجرَّبة، مع تجارب مدروسة لمحاصيل أقلّ طلبًا للمياه كالزعتر المُحسّن وخلطات رعوية، وربما الكينوا في بقع محدودة. وثالثها إدارة تربة تحافظ على الرطوبة: زراعات مغطّية، نشارة وتبن لتقليل التبخر والتعرية، وكسر انضغاط التربة وزيادة مادتها العضوية.
 
لا يقلّ أهمية عن ذلك تنظيم المزارعين في تعاونيات فاعلة لا شكلية: شراء جماعي للبذار والسماد والماكينات، تسويق موحّد، عقود مسبقة مع مطاحن أو معامل تحويل، وإنشاء وحدات صغيرة للتوضيب والقيمة المضافة تُبقي جزءًا أكبر من العائد في القرية. وإلى جانبها، إطلاق منتجات تأمين مصغّرة مرتبطة بمؤشرات المطر والحرارة تُسندها نافذة دعم وطنية وتُنفذ عبر شركات محلية، بحيث لا يترك المزارع وحيدًا أمام مخاطر مناخ لا يملك السيطرة عليه. ويمكن للإرشاد الزراعي أن يخرج من المكاتب إلى الهواتف: رسائل تنبيه بمواعيد الإنبات والريّ التكميلي، مؤشرات حرارية، إدارة للآفات، وتوقيت الحصاد، بقنوات رقمية مبسّطة تُعالج فجوات المعرفة بسرعة وكلفة زهيدة.
يبقى أن السوق نفسه يحتاج “صمّام أمان”. من دون حدٍّ أدنى مضمون للأسعار في محاصيل استراتيجية، ومن دون مخزون وطني يستوعب جزءًا من الإنتاج في السنوات الجيّدة، ستبقى دورة الغلاء تقضي على الجدوى. كما أن تنظيم الاستيراد في ذروة الموسم يحمي المنتج المحلي من الانهيار السعري، تمامًا كما يحمي المستهلك من موجات الاحتكار في الشحّ.
 
ليست هذه أزمة طقس سيئ، بل اختبار لنموذج إنتاج يحتاج إلى تحديث. بلدان أكثر جفافًا صمدت لأنّ النموذج تغيّر: ماءٌ يُحافظ عليه، تربة تُصان، أصناف تُحسَّن، ومزارعون يُنظَّمون في سلاسل قيمة عادلة. ما ينقص لبنان ليس المعرفة ولا الأمثلة، بل قرار سياسي يربط الأمن الغذائي بالمناخ، ويعامل الريف كقطاع منتج لا كمساحة انتظار. فالزراعة البعلية يمكن أن تتكيّف مع الجفاف إن أمددناها بأدوات العصر، لكنها ستستسلم إذا تركناها تواجه مناخ القرن الحادي والعشرين بأدوات القرن الماضي.
 
الجفاف الذي يضرب لبنان ليس أزمة موسم؛ إنه امتحان دولة. إذا واصلنا النظر إلى المطر كـ”معجزة” وإلى المزارع كـ”مغامر”، سنفقد ما تبقّى من الزراعة البعلية ومعها شريحة من استقلالنا الغذائي وروح الريف. المطلوب برنامج سريع بخطوات قصيرة ومؤثرة، من حصاد مياه وتعاونيات وتأمين مناخي، يفتح طريقًا أطول نحو زراعة تتكيّف بدل أن تنقرض. إنقاذ الزراعة البعلية ليس حنينًا للماضي؛ إنه استثمار في بقاء لبنان. والمعادلة واضحة: من دون قطرة مُدارة لا حقل، ومن دون حقل لا أمن غذائيا… ولا ريف.


مصدر الخبر

للمزيد Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى