آخر الأخبارأخبار محلية

راوي حداد… مُحتالٌ افتراضي وبطل من ورق!!

تُعتبر منصات التواصل الاجتماعي بيئة خصبة لنشوء ظواهر جماهيرية معقدة، حيث تلتقي العوامل النفسية والاجتماعية والثقافية لتصنع حالة من التأثير الواسع على الرأي العام. في هذا الإطار، تبرز أهمية فهم كيفية إعادة إنتاج الثقة، وكيف يمكن لشخصيات عامة أو رمزية، سواء كانت حقيقية أو وهمية، أن تكتسب شرعية وتأثيراً يتجاوزان حدود الفضاء الرقمي. 

في هذا السياق، شهدت منصات التواصل الاجتماعي في الساعات الماضية نقاشات واسعة بعد انكشاف حقيقة حساب “راوي حداد”، الذي نشط لأكثر من عشر سنوات على منصة X (تويتر سابقاً)، مُقدّماً نفسه للجمهور كصوت مثقف ومناضل يحمل همّ قضايا الأمة، من فلسطين إلى جورج عبدالله والمقاومة وسواه. لكنّ المفاجأة التي صدمت المتابعين لم تكن في اكتشاف أنه حساب وهمي فحسب، بل يُديره شخص آخر معروف باسمه الحقيقي، استغل هذه الهوية المختلقة لتحقيق حضور وتأثير استثنائي في النقاش العام، خصوصاً خلال فترة حساسة كمرحلة الحرب على غزة ولبنان.

ولعلّ ما جعل هذا الحساب يحظى بكل هذا الثقل لا يعود فقط إلى المحتوى الذي قدّمه، بل إلى الصورة التي بناها لنفسه: كاتب مثقف، حامل لقضايا إنسانية وسياسية كبرى، مدافع شرس عن المظلومين والأهم من ذلك كله أنه فاقد للنطق بسبب جراحة في الحنجرة، ما سهّل عليه التنصّل من اللقاءات الاعلامية أو المشاركة في مساحات X للنقاشات العامة. وبالتالي فإنّ هذه الصورة المتقنة ساهمت في تعزيز ثقة الجمهور به قبل أن تبدأ الشكوك بالتسلل تدريجياً مع تزايد طلباته المالية الخاصة من بعض المتابعين، تحت ذرائع متعددة. وعندما افتضح أمره، أغلق الحساب بصمت، تاركاً خلفه جمهوراً منقسماً بين صدمة الخيانة والحنين إلى الشخصية التي خدعتهم.

اللافت في هذه القصة ليس فقط فعل الاحتيال بحد ذاته، بل ردّ فعل الجمهور، إذ إنّ جزءاً من المتابعين عبّر عن غضبه وطالب بمحاسبة من يقف وراء الحساب، بينما أظهر البعض الآخر حنيناً إلى راوي وتعاطفاً معه وذهب إلى حد القول: حتى لو كان وهمياً، فقد كان مؤثراً، سنفتقده”. هذا الانقسام يكشف ظاهرة موثقة في علم النفس الاجتماعي، تعرف “بالإعجاب بالمخادع الناجح” حيث ينشغل بعض الأفراد بدهاء الجاني بدل التركيز على ضرره، فيحوّلونه إلى أسطورة رغم سقوطه. وهي ظاهرة تتداخل مع عدّة مفاهيم مثل الكاريزما الزائفة، وتطبيع الخداع إذا جاء ملفوفاً بجاذبية، والافتتان بسلطة التأثير حتى لو مورست بأساليب ملتوية.

وراء هذه الحكاية تبرز أسئلة أخلاقية وسياسية عميقة؛ كيف سمحنا بأن يُستغل اسم المقاومة، وقضية فلسطين، ومعاناة الأسرى مثل جورج عبدالله، لتحقيق مكاسب شخصية أو ربما أهداف أبعد من ذلك؟ ولماذا لا نُعيد النظر في الطريقة التي نمنح بها الثقة للآخرين ولا نفتش في خلفيات من نخضع لهم عاطفياً؟ هل أصبحنا بحاجة إلى بطل افتراضي نعلّق عليه خيباتنا بغضّ النظر عن حقيقته؟

قصة راوي حداد ليست مجرد عملية نصب رقمية، بل هي مرآة لمجتمع متعطش للرموز، مسكون بالخيبات، ومستعد أحياناً لتصديق الكذبة لأنها تمنحه شعوراً بالأمل أو الانتماء. لكنّ الموقف الأخلاقي المطلوب هنا واضح: لا مجال لتجميل الاحتيال، ولا لإضفاء البطولة على من سرق عواطف الناس قبل أن يمدّ يده إلى جيوبهم، ولا لتعاطف مع من وظّف قضايا الأمة لتحقيق مصالحه. فالدرس الأهم من هذه القصة لا يخصّ المحتال وحده، بل يخصّ أيضاً البيئة التي صنعت منه ظاهرة.

راوي حداد أو (علي) يعيش منذ سنوات طويلة خارج البلاد، حيث جُمعت كامل تفاصيل هويته بمساعدة أشخاص من بلدته في لبنان ومن مكان إقامته في البرازيل. وللمتضررين وحدهم الحق في الإفصاح عن اسمه والتقدّم بشكوى قانونية ضده، ولكن في الوقت نفسه، للصحافة المهنية الحق في الإضاءة على جوهر القضية، ليس بوصفها مجرد واقعة احتيال فردية، بل باعتبارها نموذجاً لقضية عامة تمسّ طبيعة التأثير الرقمي، وهشاشة الثقة الجماعية، والحاجة المستمرة إلى مراجعة آليات التعاطي مع الرموز الجماهيرية.


مصدر الخبر

للمزيد Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى