آخر الأخبارأخبار محلية

لكل هذه الأسباب مجتمعة أنا عائد

لا أحد يمكنه أن يفسّر علميًا هذا الشعور الاستثنائي القائم بين المغترب اللبناني حيثما كان وبين وطنه الأم. هو شعور متمايز يختلط فيه ما يشدّه إليه، وهو يعرف مسبقًا أن الأسباب المتعدّدة، التي دفعت الكثيرين من هؤلاء المغتربين إلى الانسلاخ عن وطنهم، ولو مؤقتًا، لا تزال قائمة. هو يعرف أنه آتٍ إلى حيث لا تزال الفوضى سمة ملازمة ليوميات اللبنانيين. وتبدأ هذه الفوضى منذ اللحظة، التي تطأ فيها الأقدام أرض المطار، ولا تنتهي إلاّ حين يعود من حيث أتى. هذا المغترب يعرف أن في استطاعته أن يقضي فرصته السنوية في أجمل البلدان في العالم، ويعرف أيضًا أن في استطاعته أن يسوح في بلاد الله الواسعة من دون أن يضطّر إلى تحمّل مشقة السفر الطويل، وبالأخص بالنسبة إلى اللبنانيين الذين يقصدون الربوع اللبنانية من أستراليا أو كندا أو حتى من البرازيل مثلًا.









هذا اللبناني المغترب يعرف كل هذا. ومع كل هذا يصرّ على أن يأتي، ولو لمرّة واحدة في السنة، إلى البلد الذي يحنّ إليه مع كل طلعة شمس. فما بينهما من علاقة لا يمكن تفسيرها بالمنطق الحسّي هو أقوى من أي علاقة أخرى، وهو الذي لا يغيب عن باله ولو للحظة. صحيح أن المغتربين موجودون في بلاد الاغتراب جسديًا، ولكنهم لا يزالون يعيشون في هذا الوطن المعشوق. يتابعون أخباره لحظة بلحظة. يلاحقون أدّق التفاصيل بعدما بات الكون الافتراضي قرية صغيرة. ولكن هذا لا يغنيهم عن تكحيل عيونهم بوطنهم المذكور في الكتاب المقدس أكثر من سبعين مرة، وهو المحسوب وقفًا للعلي القدير، الذي قال للنبي موسى حين “نظر الى الشمال، نحو جبال لبنان وسأل: وهذا الجبل؟ اجاب الله وقال: أغمض عينيك. هذا الجبل هو وقف لي. لن تطأه قدماك لا انت ولا الذي سيأتي من بعدك”، كما جاء في سفر تثنية الاشتراع.

فعندما يقرر أي لبناني مغترب زيارة بلده الأم لقضاء فترة من اجازته في ربوعه لا يقصد بالطبع أن يمضي هذا الوقت القصير فيه كما يفعل عندما يزور أي بلد سياحي آخر.  فما يجده في غير لبنان قد يكون مغريًا من عدة نواحٍ، إن من حيث الخدمات أو من حيث ما يمكن أن يكون متوافرًا وغير متوائم مع الظروف، التي يعيشها لبنان، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا. 
فالمغترب اللبناني، من أينما أتى، لا يتكبد مشقة السفر الطويل فقط من أجل السهر أو ارتياد المطاعم وتذوق الطعام اللبناني اللذيذ، أو التمتع بمناظره الخلابة، بل من أجل أمر واحد فقط لا غير. أن يرى الأشخاص الذين كانت بينه وبينهم ذكريات مشتركة، وأن يمضي معهم أوقاتًا لا يعكرّ صفاءها لا الكلام السياسي ولا الحديث عن الهموم اليومية، التي يعيشها كل لبناني، من أقصى الشمال إلى عمق أعماق الجنوب وامتدادًا نحو السهل والجبل والساحل. أو أن يستنشق هواءه حتى ولو كانت نسبة التلوث فيه مرتفعة. أو أن يزور قبر والديه ويصلي راكعًا، ويحمد ربه على عطاياه ونعمه الكثيرة، ويتذكرّ الأيام الحلوة، التي عاشها بكنف والديه، اللذين ضحيا كثيرًا من أجل سعادته.

أنا واحد من بين ملايين سيقصدون لبنان هذا الصيف، على رغم استمرار إسرائيل في استهداف ما تعتبره يشكّل خطرًا داهمًا على أمنها الشمالي، وعلى رغم الأجواء السياسية الملبدة بغيوم التفتيش عن مخرج يسعى إليه رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون لسلاح “حزب الله”، وعلى رغم ما قد يصادفهم من أمور لا تحصل معهم حيث هم في مغترباتهم.  فلا يهنأ العيش إلا عندما تصيبك الدهشة عندما تأتي كهرباء الدولة، فيصيح الجميع، وفي شكل عفوي، “إجت الدولة”. وهذا ينطبق أيضا على المياه المقطوعة، والتي لا تزور المنازل إلا في المناسبات، وقد لا تكون دائما سعيدة. ولا يحلو السهر إن لم يلعلع الرصاص مع كل موال من مواويل “سلطان زمانو”، وما أكثر “سلاطين” هذه الأيام. 

ليس من أجل كل هذا قطعت الآف الأميال، وليس من أجل جلسات الأنس والطرب، وهي أمور جميلة ومستحبة، بل من أجل أمر آخر، وهو الخوف من أن تضيع مني ذكريات الطفولة، وأن أصبح انسانًا من دون ماضٍ، أو أن أضيع في هموم الحياة، التي تركض ونحن نركض وراءها. لم آت لكي آكل اللحمة النية والتبولة وشرب العرق. أتيت لكي لا أنسى، ولكي أقف في صباح كل يوم على شرفة منزلي لأشاهد طلوع الفجر. هذا الصباح في قرانا له نكهة غير شكل لا تجدها في أي مكان آخر في الدنيا. من أجل هذه اللحظات “يحرز” المشوار، وإن كان طويلا ومتعبًا. من أجل أن تسمع صياح الديك الصباحي، وهو يبشرك بيوم جديد تهون معه مشقة المشوار الطويل، ومن أجل أن تشم رائحة الزعتر البري والطيون واللزاب والسيكون والزيزفون والياسمين يصبح الحنين والاشتياق أقوى. 
هو سر فيه الكثير من السحر والالغاز وهو أن تحب لبنان أكثر عندما تبتعد عنه.


مصدر الخبر

للمزيد Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى