آخر الأخبارأخبار دولية

من مانهاتن لبروكلين… ذكريات يوم من الجحيم “باتت فيه نيويورك مدينة أمريكية”

التقينا بثلاثة من سكان نيويورك، رووا لنا أوفياء للتسلسل الزمني، أطوار اليوم الذي يعتبرونه، رغم مرور عشرين عاما، كابوسا جثم على صدر نيويورك.  تتراوح أحاسيس هؤلاء حين يتذكرون ما حدث بين الصدمة والرغبة في المقاومة والشعور بأنهم كانوا شهودا رغما عنهم على حدث جلل دخل التاريخ. نستعرض شهادات هؤلاء الذين فروا من مانهاتن بكل ما أوتوا من قوة الهلع. شهادات نادرة أخفقت السنوات العشرون في محو تفاصيلها الفريدة. 

الساعة 8:46

بوب ويستون يعبر جسر بروكلين ليصل إلى مانهاتن حيث فوجئ بطائرة تحلق بسرعة وعلى ارتفاع منخفض، طائرة هائلة تخترق أجواء مانهاتن

بوب الذي يبلغ اليوم من العمر 59 عامًا، كان يقيم في ذلك الوقت في شقة تحاذي جسر بروكلين الشهير


في ال11 سبتمبر 2001 ، اتجه بوب ويستون إلى مكان عمله الذي يقع على بعد عدة بنايات من مركز التجارة العالمي . © بوب ويستون

يقول: “في ذلك اليوم من سبتمبر 2001 ، كنت أعمل لدى مصرف “سيتي غروب “. لم أكن موظفًا بل أعمل بعقد مؤقت، أقوم بالتصميم الغرافيكي”. “كان المبنى الذي أسكنه  يوجد عند سفح الجسر مباشرة.  حينها ، كنت أعمل في  شارع غرينتش، على بعد بضعة مبانٍ  فقط من مركز التجارة العالمي.  قررت توفير بعض المال وفي نفس الوقت ممارسة الرياضة، فكنت أمشي على الأقدام ذهابا وإيابا فأمر في كل مرة فوق جسر بروكلين. 

“في ذلك الصباح ، استيقظت مبكرًا لأنه كان يوم انتخابات، وأتذكر أنني ذهبت للتصويت. وبعد ذلك اتجهت صوب العمل. الشيء الذي بقي عالقا في ذاكرتي هو أنه كان يومًا صحوًا ومشرقًا. لقد كان يومًا من الأيام النادرة  التي كانت فيه درجة الحرارة مناسبة تماما، والسماء زرقاء صافية. لم أنس ذلك قط. 

وحين كنت أمشي على جسر بروكلين وبعد أن قطعت ثلاثة أرباعه وبلغت جزأه التابع لمانهاتن، رأيت طائرة بعيدة  تحلق بسرعة كبيرة وعلى مستوى منخفض للغاية. حجم هائل و سرعة كبيرة جدا.  شاهدتها عدة ثوان وهي تخترق الأفق ثم اصطدمت  بالبرج الشمالي لمركز التجارة العالمي. لن أنسى ذلك أبدا.

“أتذكر أنه كان لدي مجال رؤية لا تشوبه شائبة،  وأتذكر أنني حبست أنفاسي قليلا لأنني ظننت حقا أنني رأيت البرج يتحرك قليلا”. لقد “أحرق “مشهد الطائرة الأولى وهي تصطدم بالبرج الشمالي من مركز التجارة العالمي عقلي تماما، لم أشاهد شيئًا من هذا القبيل قط. 

“وعندما اصطدمت الطائرة بالبرج ، كان الانفجار هائلاً للغاية. لقد كانت الطائرة ضخمة وشعرت وكأن موجة قوية اخترقت جسدي. لن أنسى ذلك أبدًا، فقد  توقف كل شيء، وتوقفت حركة المرور فوق الجسر”. “أتذكر جيدا، في ذلك الوقت، أننا اعتقدنا جميعا ولوهلة قصيرة أن ما رأيناه كان مجرد حادث مروع. لا أعرف إذا كنا نظن ذلك حقًا، أم أننا لم نستوعب الحقيقة ففضلنا أن تكون خيالا”. 

“ثم سمعت أحدهم يصرخ ، نظرنا جميعًا إلى الأعلى لنرى الطائرة الثانية وهي تضرب البرج الجنوبي لمركز التجارة العالمي. الكل أدرك هنا أن ذلك لم يكن مصادفة، فلقد تعرضنا بالفعل للهجوم. ولن أنسى أبدًا اللحظة التي اصطدمت  فيها الطائرة الثانية بالبرج .

“ثم خرجت كرة نارية ضخمة من الجانب الآخر من البرج .وكان المشهد بعيدا، وما يحصل لا يمكن له أن يؤذينا، لكنني لن أنسى أبدًا كيف كانت كرة النار تتوسع و تزداد سخونة. وغريزيًا ، بدأ الجميع بالتراجع، وأصبح الجو حارًا حقًا، وبعد ذلك  بدأت هذه الكرة النارية تتبدد شيئا فشيئا وتبرد. وكان ذلك مخيفا”.

“درت على عقبي لأتوجه إلى بروكلين إلا أن ضابط شرطة اعترضني وقال لي: ’انزل حالا من الجسر وبأسرع ما يمكن‘ ركضت نحو مانهاتن، باتجاه غراوند زيرو، حيث يوجد مكتبي” .

“وفي الطريق إلى هناك ، أتذكر  أني رأيت قطعا من حطام الطائرة في الشارع، وكان الناس في حالة صدمة.  لم أر أي مصاب في ذلك الوقت، لكن وعندما وصلت إلى مكتبي وإلى المبنى، كان الجميع يتدافعون للخروج منه. قابلت مديري وقال لي: ’نحن ذاهبون، عد إلى البيت‘”.

“ركضت  نحو الحي الصيني، ونحو “إيست فيليدج”، الذي اعتقدت  أنه سيكون أكثر أمنًا لأنه كان يتكون من مبانٍ صغيرة سكنية”. “كنت أسير في شارع باوري، وسمعت ضجة وجلبة. ظننت أنه قطار، وشعرت كما لو أن الأرض كانت تهتز تحت قدمي. والتفت في الوقت المناسب، حيث استطعت رؤية الجزء العلوي من البرج الجنوبي وقد بدأ ينهار. ولم أكن أصدق ما كنت أراه”. “لأنى حين كنت طفلا نشأت في بروكلين، وأتذكر أنني شاهدت بناء برجي مركز التجارة العالمي. وهكذا فإن مجرد تخيل انهيار أحدهما كان أمرا لا يمكن تصوره”. “وحين كنت هناك، بدأ فجأة عدد كبير من الناس يتدفق عبر الجسر. ربما بعد أن فتحوه قبل وقت قصير للمارة. ولن أنسى أبدًا ،مشهد هؤلاء الناس وهم يسيرون على الجسر في اتجاه بروكلين، والآلاف منهم  يغمرهم ذلك الغبار الأبيض والرمادي”.  

“هذه الذكرى لا تزال حية في ذاكرتي تماما. وأنا  أعمل اليوم كمرشد سياحي، غالبا مع مجموعات من طلاب الصف الثامن.  كثيرا ما ترافقني مجموعات من الطلبة خلال الرحلات، نمر جميعًا بمانهاتن ومدينة نيويورك  سيتي، ودائمًا لا نزال نمر  بنصب الحادي عشر من سبتمبر التذكاري”. “هذه الذكرى مؤلمة. وحتى مع مرور الوقت، لا تزال مؤلمة ومزعجة”. 

“وكلما حلت الذكرى السنوية لهذه الأحداث “أحمي نفسي نوعًا ما، وأتجنب مشاهدة التلفزيون في ذلك اليوم، أحاول أن أشغل نفسي، وأحاول تقريبا أن أحجب هذا اليوم  من ذاكرتي”.

الساعة 10 صباحا ؟

سمعت ليلا نوردستروم ، التي كانت يومها في السابعة عشرة من العمر، مسؤولي مدرستها يطلبون من جميع الطلبة مغادرة المبنى الذي يقع على مقربة من مركز التجارة العالمي والركض شمالًا“.

ليلا  نوردستروم، هي اليوم مديرة منظمة “ستايهالث” ومؤلفة كتاب “الأطفال الذين تركوا لحالهم”، تقول: “في الحادي عشر  من سبتمبر 2001  كنت طالبة في مدرسة ستافيسنت الثانوية التي توجد على بعد ثلاث بنايات فقط من مركز التجارة العالمي ، كنت حينها داخل الفصل  ولم نغادر المدرسة حتى بعد انهيار المبنى الأول، لكن تم إخلاء المدرسة الثانوية مع بداية انهيار المبنى الثاني لمركز التجارة العالمي. كنت إذن داخل المدرسة طيلة الساعة الأولى من الأحداث 

ليلا نوردستروم ، في مؤتمر صحفي في يونيو 2020 ، بعد جلسة استماع في مجلس النواب مخصصة لتعويض ضحايا 11 سبتمبر.
ليلا نوردستروم ، في مؤتمر صحفي في يونيو 2020 ، بعد جلسة استماع في مجلس النواب مخصصة لتعويض ضحايا 11 سبتمبر. © مايكل مكوليف

لقد شاهدنا كل شيء من نافذة الفصل، فنوافذه تطل على برجي مركز التجارة العالمي. وشاهدنا كيف انهار كل شيء وكيف ظهرت سحابة ضخمة من الغبار الذي انتشر في كامل المنطقة، وبدأت تغطي سماء مانهاتن.  

بعد ذلك ، بثت إدارة المدرسة إعلانا تطالبنا فيه بمغادرة المبنى والخروج بسرعة شمالا ثم فُتحت الأبواب وسارعنا بالركض. لم يرافقنا أحد ولم نحصل على أية معلومات حول المكان الذي يجب أن نلجأ إليه. طُلب منا فقط مغادرة منطقة “مانهاتن السفلى” بسرعة. 

ثم رأيت البرج الثاني  لمركز التجارة العالمي وقد بدأ في الانهيار ببطء، وبدأ الجميع بالركض، فركضت معهم، وبعد ذلك شاهدنا الدخان يتصاعد بكثافة من منطقة “مانهاتن السفلى”. وأصبح كل همنا الابتعاد عن المدينة بأسرع وقت ممكن.

قررت  الذهاب إلى منطقة كوينز رغم أن عائلتي كانت  تعيش في مانهاتن. أردت الخروج سريعا من مانهاتن لأننا سمعنا في الراديو قبل أن نغادر المدرسة بأنهم سيقومون بإجلاء كامل جزيرة مانهاتن، لذلك اعتقدت أنه يتعين علينا المغادرة، فذهبت إلى كوينز مع صديقتي وبقيت في بيتها تلك الليلة قبل أن أعود صباح الغد إلى بيت عائلتي، ولم أتمكن من لقاء والداي في ذلك اليوم. كنت أحاول العثور على طريقة  لمغادرة المكان بأسرع ما يمكن. لم يكن لدي متسع من الوقت للتفكير فيما يمكن أن يحدث، كنت أحاول فقط الابتعاد عن ذلك المكان.  

بدا الأمر وكأنه فيلم سينمائي لا كشيء حقيقي، ولم يكن من السهل استيعاب هذا الحدث الضخم الذي يحدث أمامي وكنت لا أزال طفلة مراهقة. 

جمعية لتأطير الطلبة الذين تأثروا  بعمليات تنظيف منطقة مركز التجارة العالمي بعد اعتداءات سبتمبر 

“في 2006 أطلقتُ منظمة تسمى” ستايهالث ” تعمل على نصح وتأطير الطلبة الذين تأثروا بعمليات تنظيف منطقة مركز التجارة العالمي بعد الاعتداءات. بالنسبة لنا، فإن أحداث 11 سبتمبر لم تنته حقا في ذلك اليوم، فقد عدنا إلى المدرسة في غضون شهر من الاعتداءات إلى منطقة أصبحت تعاني من أزمة بيئية حقيقية. استنشقنا الهواء السام لأشهر، وبسبب ذلك بدأت تظهر على الكثير من زملائي أعراض مشاكل صحية وأمراض.  لم تتوفر لهؤلاء الطلبة الكثير من المعلومات حول المخاطر الصحية التي كانوا يواجهونها ولم تقدم لهم المساعدة للعثور على حلول لمواجهة هذه المخاطر”. وفي مقال  نشرته صحيفة واشنطن بوست، قالت ليلا إنها “أمضت معظم حياتها تكافح للمطالبة بمعالجة الأشخاص الذين أصيبوا بهذه الأمراض”.

مساءً 

” أدركت يومها أني كنت شاهدا على واقعة تاريخية وأن نيويورك لم تعد المدينة التي كانت عليها من قبل”

  لوران أفريت، هو مدير المنظمة الثقافية الفرنسية الأمريكية، يعمل في السفارة الفرنسية بالقرب من حديقة “سنترال بارك”.  يقول:  “عندما وصلت إلى العمل، أدركت أن هناك مشكلة. التلفزيون يقول إن طائرات ضربت الأبراج، وأن طائرة أخرى ضربت البنتاغون، وأن طائرة رابعة اختفت.

مع بداية وقت الظهيرة، أدركنا أن الهجمات على ما يبدو قد انتهت، فقررت مع أحد زملائي الذهاب إلى وسط المدينة لمعرفة ما يحدث.  

لوران أفريت على جسر بروكلين ، 8 سبتمبر 2021
لوران أفريت على جسر بروكلين ، 8 سبتمبر 2021 ©ديفيد غورموزانو

ما شد انتباهي هو أن السماء كانت  جميلة، زرقاء وصافية دون سحب. عبرت  حديقة ” سنترال بارك”، كان الناس يمارسون الجري واليوغا بكل تروٍّ. من ذلك المكان لم نكن نشاهد شيئًا ولا حتى الدخان. وعندما بلغنا “كولومبوس سيركل”، بدأنا نرى حشودا وتجمعات. واصلنا السير، وعندما بلغنا الشارع 42، لم تعد تعترضنا سيارات. توقفت حركة  السير فجأة، وبدأنا نمشي عند منتصف الطريق سيرًا على الأقدام وحينها بدأت تتكون سحابة كبيرة  في السماء. ثم شاهدنا أشخاصًا وقد غطاهم الغبار وكانت سيارات إسعاف ومعها ممرضين في انتظار جرحى لم يأتوا أبدا.

عندما وصلنا إلى وسط المدينة، كانت الساعة  في حدود الرابعة مساء. وكان الجو ثقيلا ، والغبار في كل مكان ، وصفارات الإنذار تدوي دون توقف، والناس يركضون. قررت حينها العودة إلى بيتي في بروكلين؛ فتوجهت صوب الجسر. وحين بلغته، رأيت في هذه السماء الزرقاء الجميلة سحابة ضخمة، كانت تتجه نحو تلال “كوبل” ، وحدائق كارول حيث أقطن. لم تعد هناك سيارات، الكل يسير على الأقدام. لم نشاهد سوى عدد قليل من سيارات الشرطة والإسعاف.

لم يعد من الممكن الدخول مجددا إلى مانهاتن بعد الآن، يمكنك فقط الخروج منها. لم أستطع التوقف عن التحديق في هذه السحابة الضخمة التي توقفت عن التحرك، والتي لا يمكن رؤية أي شيء من خلالها، وكان ذلك مدهشا.

وصلت إلى حدائق كارول ، وكان الرماد يتهاطل في كل مكان وتواصل ذلك لأيام وأيام. كنت في حالة صدمة،  لكني تجاوزت مرحلة القلق الذي كان قد غمرني في الصباح، لم أكن أعرف أي شخص يعمل في مركز التجارة العالمي وكنت أعلم أن أصدقائي وعائلتي في أمان. لذلك كان كل شيء بالنسبة على ما يرام. وأعترف بأن هذا الشعور كان أنانيا.

في المقابل  ، كنت مهووسًا بهذه اللحظة التاريخية. كنت أعلم أنني أعيش حدثا فريدا. ما زلت لا أفهم كل تداعياته بعد، لكنني كنت أقدر أنها ستكون مهمة. لم أشاهد مرة أخرى الحشود التي رأيتها في الصباح، وعندما أخلوا مانهاتن وكان الناس يسيرون على الأقدام، اختفت حركة السير في مانهاتن التي أصبحت تملؤها فقط صفارات الإنذار .

الجميع كان في حالة صدمة. كان هناك من يصرخ ويبكي ويمد ذراعيه  نحو السماء التي يتساقط  منها الرماد. أتذكر سيدة كانت تصرخ “لا مويرتي، لا مويرتي” أي الموت باللغة الإسبانية. لقد كان ذلك الغبار الأسود فظيعا.

لم أرَ الناس في حالة ذعر أو ارتباك وصراخ بل يبدو وكأنهم استسلموا  للأمر وهم غالبا في حالة صدمة على ما أعتقد . كان الأمر غريبًا حقًا على جسر بروكلين: فقد كانت الإضاءة رائعة، وكان هناك المزيد من السيارات، والصمت كان يلف المكان، لم يكن هناك سوى سيارات إسعاف وسيارات شرطة تمر بين الفينة والأخرى وكانت هذه السحابة السميكة، الضخمة السوداء، لا تزال تعلو المكان. كان يشوب الأجواء نوع من السكينة.

ماذا تغير بعد هذا الحدث؟ أعتقد أن نيويورك أصبحت “مدينة أمريكية” في ذلك اليوم. تغير كل شيء بشكل كامل. مثلا في اليوم التالي لأحداث الحادي عشر من سبتمبر، وعلى جادة الشارع الذي أقطن فيه، في هذا الحي الإيطالي في نيويورك، ظهر فجأة 17 علما أمريكيا لم يكن لهم وجود في السابق. أدركنا  أن الأمور ستتغير بسرعة، وأن نيويورك التي ضربت في الصميم وفقدت الكثير من  سكانها، قد دخلت مرحلة جديدة وغير مسبوقة. هكذا رأيت الأمور .

 

موفدو فرانس24 إلى الولايات المتحدة: عماد بنسعيّد / كولن كينيبورغ / دافيد غورميزانو


مصدر الخبر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى