آخر الأخبارأخبار محلية

أحياء اختفت معالمها.. لبنانيون يلملمون ذكريات بلدات مدمرة

يمعن الجيش الإسرائيلي منذ بدء اجتياحه البري للبنان، في تفخيخ وتفجير القرى والبلدات الحدودية، لتتهاوى منازل وأبنية حكومية ومعالم أثرية، وتُدمّر المساجد والحسينيات والمدافن، وتُنسف بلدات كاملة، فضلاً عن اقتلاع الأشجار وتدمير السهول والأراضي الزراعية وبرك الري، والقضاء حتى على الماعز والأغنام، بذريعة حماية المستوطنات المواجهة للحدود.

 

وتتحسّر العبدة برجي على ما حلّ ببلدتها ميس الجبل، من نسف لكامل الأحياء والمباني والشوارع، وتقول لـ”العربي الجديد”: “رفضت على مدار 11 شهراً مغادرة البلدة، ثم اضطررت إلى النزوح القسري قبل نحو شهر. ميس الجبل بمثابة الروح التي تحييني، ففيها وُلدت وكبرت وتعلمت، وفيها أسّست حياتي وعلاقاتي. هي الذاكرة والوجدان، وفور وقف إطلاق النار سأهرع إليها لأشتمّ رائحة ترابها. أدرك أنني لن أجد منزلي وحديقتي، وسأفتقد حياتي السابقة حالي حال كل أهل البلدة، غير أني لن أتخلى عن الأمل، وسأعيد إعمار البيت وزراعة الأشجار. سنعود مرفوعي الرأس كشجرة الزيتون، وستعود بلدتنا وكل بلدات جنوب لبنان إلى سحرها وجمالها، ولن نرضخ للضغوط التي يمارسها العدو من خلال التدمير”.

 

تعمل برجي ممرضة في مستشفى ميس الجبل الحكومي، وقد تمسكت قبل نزوحها بواجبها الإنساني، حتى بعد إخلاء المستشفى، إذ كانت تتابع الأوضاع الصحية لـ34 مسنّاً ومسنّة رفضوا ترك البلدة، وتسهم في توفير العناية التمريضية لهؤلاء المسنين، إلى جانب خدمات الطعام وغسل الثياب وشراء حاجياتهم.

 

وتؤكد أن “العدو يريد تحويل بلداتنا الحدودية إلى أرض قاحلة، غير آبه بقرارات أو مواثيق دولية”، وأضافت: “لقد أمعن في نسف وتدمير بيوت بُنيت بعرق مقيمين ومغتربين، ويواصل تفخيخ المستشفيات، وتفجير المستوصفات والمباني الثقافية والدينية والتربوية، مثل ثانوية محمد فلحة الرسمية، والتي خرّجت أجيالاً من الأطباء والمهندسين والأكاديميين ورجال الدين، ومسجد الإمام علي الأثري في ساحة البلد. يحاول جيش الاحتلال تدمير البلدة بعد أن قتل أطفالنا وكبارنا وشبابنا ونساءنا، ويفتعل الحرائق في كروم الزيتون، ويلوّث الحقول والأحراج بالقنابل العنقودية كي لا نتمكن من العودة، ويرمي مواد كيميائية في بركة ميس الجبل الأثرية، والتي تعتبر مصدراً أساسيّاً لري الأراضي الزراعية التي تشكل مصدر رزق لكثير من العائلات”.

أحياء وحارات وشوارع اختفت معالمها بعد أن طاولها القصف

 

بدوره، يقولُ الباحث في “الدولية للمعلومات” (شركة دراسات وأبحاث مستقلة) محمد شمس الدين، لـ”العربي الجديد” ، أن “الشريط الحدودي مع فلسطين المحتلة من الناقورة غرباً إلى شبعا شرقاً، بطول 120 كيلومتراً، يضم 29 قرية وبلدة ومدينة، وقد دُمّر منها 22 بشكل شبه كامل، من بينها ميس الجبل، وعيتا الشعب، وكفركلا، والعديسة، ومركبا، وحولا، ورب الثلاثين، وبلغ عدد الوحدات السكنية المدمّرة بشكل كامل نحو 22 ألف وحدة، من بينها قصور في بلدات يارون والخيام وميس الجبل، وبالتالي فإن الخسائر جسيمة”.

 

في ثوانٍ معدودة، دمّر منزل رضا شيت في بلدة كفركلا الحدودية، بعد 16 عاماً من الجد والكد لبنائه، كما دمرت “فيلا” شقيقه بعد أقل من أربعة أعوام على إنجازها.

 

وفي حديث لـ”العربي الجديد”، يقول شيت: “بنيتُ منزلاً جميلاً، وساعدت أخي في بناء فيلا رائعة بإطلالة ساحرة على فلسطين المحتلة وهضبة الجولان، اعتمدنا في تجميلها على الحجر العرسالي الشهير، وأشكال هندسية مميزة. للأسف، تدمر كل شيء، وخسرنا تعب السنوات”. 

 

 

يتحدث رضا عن سحر بلدته التي تحتضن “بوابة فاطمة”، وهي المعبر الذي يربط بين لبنان وفلسطين المحتلة، وهو معلم قديم شهير، ويقول: “بلدتنا جميلة بطيبة أهلها ووحدتهم، بأشجار التين والزيتون المعمّرة، وبيوتها الأثرية الجميلة بالحجر الصخري، وقناطرها القديمة في ساحة البلدة، حتى أن جامع البلدة معلم أثري يتجاوز عمره مئات السنين، وقد هدموه ودمّروا قبّته ومئذنته، كما طاول إجرامهم المدافن والحسينية. أفتقد ساحة البلدة، حيث كان الأهالي يتحلقون في الأفراح والأتراح، ويتبادلون التهاني أو التعازي كعائلة واحدة. تربطني علاقة وطيدة بالجيران والأصدقاء، وبأشجار الزيتون والتين والرمان، والتي صارت جزءاً من حياتي”.

 

يضيف: “حزني يفوق الوصف عندما أرى معالم ومنازل بلدتي تُفخخ وتُفجّر بحقد ووحشية. تدمّرت معظم بيوتنا، بيتي وبيوت أهلي وإخوتي وجيراننا، ومن لم يسقط منزله بالكامل، فإنه تعرض لأضرار جسيمة، والشجرة التي لم يتم اقتلاعها تم قطعها. أحياء وحارات اختفت معالمها، ولن نعرف الشوارع والأزقة والزواريب حين عودتنا. لقد تغيّرت معالم البلدة بالكامل، ونحزن على ضياع ذكرياتنا وذكريات آبائنا وأجدادنا. معظم البلدات الحدودية تتعرض لتدمير معالمها وشوارعها وأزقتها وينابيعها وسهولها وجبالها. إنه إجرام موصوف يعبث بالأرض والهوية، لكننا سنعود لنبني ونزرع، فهي ليست المرة الأولى التي تشهد فيها بلدتنا الخراب والدمار”.

 

 

من جهته، يشرح المؤرخ منذر محمود جابر، لـ”العربي الجديد”، أن “العدو الإسرائيلي يكرر أن هدفه من تفخيخ وتدمير القرى الحدودية هو حماية مستعمرات الجليل من عناصر المقاومة اللبنانية”، وأشاف: “هذا السبب واهٍ، فطبيعة الأسلحة والصواريخ والمواجهات ألغت الخوف من اشتباك أمني من مسافة قصيرة عبر البندقية أو مدافع (الهاون)، كون مدى الصواريخ أوسع، والأسلحة المختلفة تطاول مناطق بعيدة داخل فلسطين المحتلة. ما نشهده من تدمير للقرى والبلدات الحدودية سيلقي بمفاعيله على أجيال لاحقة، فحال تدمير القرى لا يمكنها أن تعود إلى هيئتها السابقة. لقد كانت حواضر تزخر بالرأسمال والعمران، وتحولت إلى حال مؤلمة”.

 

 

ويشير المؤرخ اللبناني إلى أن “النازح لا يمكنه أن يحمل همومه العائلية إلى جانب همومه الوطنية، فالهم الأول أثناء النزوح هو تأمين مكان الإقامة، وتسجيل الأولاد بالمدارس، والعثور على عمل لمواصلة الحياة، ثم تأمين علاقات اجتماعية تحافظ على المكانة والتوازن الاجتماعي وتماسك الأسر”، وتابع: “يحتل الشخصي وجدان النازح، وينسى العام لفترة طويلة، والتاريخ الخاص يتغلب على العام في هذه الأوقات، إذ يتحول الهم إلى إعادة إنتاج التاريخ الخاص، وهو تاريخ لا يُبنى بكبسة زر، بل يحتاج إلى سنوات، قبل أن ننتقل لاحقاً إلى التاريخ العام. خلال هذه الفترة الانتقالية، تكون قد سيطرت على النازح الهموم والخوف من الأمراض والمشاكل، وهموم الزواج والطلاق، ومعرفة مكان الدفن، وغيرها من الهموم المتشعّبة”.

 

 

وينبّه جابر إلى أن “خطورة النزوح تكمن في أنه يلغي التراث والعادات والتقاليد، والأغاني، وطقوس الأفراح والأحزان، وهي طقوس عمرها آلاف السنوات، كما يلغي العلاقات الاجتماعية، والتي يحل مكانها الخوف من الفقر”، وأكمل: “تتعمد إسرائيل دراسة مفاعيل النزوح والتهجير وتأثيرهما، فالمواطن حين ينتهي تراثه وتاريخه المحلي، ينصرف إلى إنتاج تاريخ خاص وتراث جديد، فيتلهّى بذلك عن تاريخه الوطني، ولا شك أن تاريخ إسرائيل قائم على هذه المنهجية، تماماً كما فعلت عند تهجير الفلسطينيين، وخلال محاولات تهجير أهل القدس. إن إقدام الدولة اللبنانية والمواطنين في حقبتي الستينيات والسبعينيات على تغيير أسماء بعض القرى والبلدات لأسباب تافهة أو واهية، يُعتبر أيضاً إلغاء لتاريخ كامل يرتبط بهذه الأسماء، لتفقد الأماكن ليس فقط اسمها، بل تفقد دلالتها ورمزيتها”. (العربي الجديد)


مصدر الخبر

للمزيد Facebook

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button