مُعالجة الدين العام وعودة الرساميل.. فرصة للبنان للتعافي في موازنة 2025
في هذا الإطار، يُشدد الباحث في الشؤون الاقتصادية والمصرفية الدكتور محمد فحيلي على ان “التوقف عند مسألة الدين العام، وخصوصاً الخارجي منه، ضرورة حتمية يجب إدراجها كمادة أساسية في مشروع موازنة 2025، إذ لطالما تم تجاهل هذا الملف في مشاريع الموازنات السابقة، ما أدى إلى تراكم الأعباء وزيادة الضغط على الاقتصاد اللبناني المُنهار”، مؤكدا ان “الفرصة المُتاحة اليوم قد تكون حاسمة للبنان إذا أحسن استثمارها بعيداً من النزاعات السياسية ومحاولة تحقيق مكاسب فئوية قصيرة المدى.”
ويُتابع فحيلي في حديث لـ “لبنان 24“: “يعيش لبنان أزمة اقتصادية غير مسبوقة تتمثل في التضخم المفرط، انهيار العملة الوطنية، وانحدار الخدمات الأساسية، هذا الانهيار دفع بالاقتصاد إلى حالة من الشلل شبه الكامل، حيث أصبح المواطن يعاني من غياب الأساسيات مثل الكهرباء، المياه، والرعاية الصحية، وبالتالي تُعد إعادة هيكلة الدين الخارجي إحدى الوسائل الأساسية لتحقيق الاستقرار الاقتصادي، وهي عملية تتطلب تعاوناً وثيقاً مع الدائنين الدوليين”.
ولفت إلى ان “إعادة هيكلة الديون اللبنانية يجب أن تتم بالتنسيق مع “نادي باريس” وهو مجموعة من الدول المتقدمة الدائنة، ويتمثل دوره في إيجاد حلول منسقة ومستدامة لصعوبات الدفع التي تواجهها البلدان المدينة، بينما تقوم هذه الأخيرة بإصلاحات لتحقيق الاستقرار واستعادة وضعها الاقتصادي والمالي، وبمشاركة فعالة من صندوق النقد الدولي، حيث يمثل هذا التعاون المظلة الأساسية التي يمكن أن تُساعد لبنان على تخفيف أعباء الدين الثقيلة وإعادة تنظيم المالية العامة”.
ويؤكد فحيلي ان “هذا المسار ليس خالياً من التحديات، إذ أن نجاح المفاوضات يعتمد بشكل رئيسي على مجموعة من العوامل أبرزها:
أولاً على لبنان أن يكون جاداً في التعامل مع الديون الخارجية، مع التركيز على تفعيل إطار واضح وشفاف لمعالجة الدين، بدلاً من اللجوء إلى التسويف أو الحلول الجزئية التي غالباً ما تكون قصيرة الأمد.
ثانياً، الالتزام بإصلاحات اقتصادية شاملة تشمل القطاعات الحيوية، بدءاً من قطاع الطاقة وصولاً إلى النظام الضريبي والإداري. علما ان هذه الإصلاحات ليست خياراً بل ضرورة لضمان استعادة الثقة الدولية وجذب الاستثمارات الضرورية لإعادة تحريك عجلة الاقتصاد.
وأخيراً، بحسب فحيلي، لا يُمكن إغفال السياق الجيوسياسي المحيط بلبنان، حيث تتداخل المصالح الإقليمية والدولية بشكل كبير مع الشؤون الداخلية، ما يضيف طبقة أخرى من التعقيد لأي عملية تفاوض.
الإصلاحات الاقتصادية: شرط أساسي
ويُشير إلى انه “إلى جانب الالتزام بالإصلاحات الاقتصادية والسياق الجيوسياسي المعقد، لا بد من النظر في الجانب القانوني لإعادة التفاوض على الديون، حيث لا توجد مهلة دولية محددة للتفاوض بعد التخلف عن السداد، ولكن الاتفاقات القانونية والعرفية تؤثر على عملية إعادة الهيكلة، موضحا ان “نادي باريس، كجهة غير رسمية لإعادة هيكلة الديون، يمكن أن يلعب دوراً مهماً في إعادة هيكلة الديون الثُنائية للبنان. ومع ذلك، لن يحل هذا كل مشكلات الديون اللبنانية، مما يتطلب مفاوضات موازية مع الدائنين.”
ويضيف: “عادةً ما يشترط نادي باريس على الدول المدينة تنفيذ إصلاحات اقتصادية محددة مقابل تخفيف ديونها. هذه الإصلاحات تهدف إلى ضمان استدامة الاقتصاد وقدرته على التعافي في المستقبل. في حالة لبنان، يتطلب الأمر إعادة هيكلة شاملة للنظام المالي وتحسين نظام الحوكمة، وهما مجالان يعانيان من ضعف كبير بسبب الأزمات السياسية الداخلية والصراعات بين القوى السياسية. كما ان إعادة الهيكلة المالية تعني اتخاذ خطوات جادة لتنظيم الميزانية العامة، تخفيض العجز المالي، والتحكم في الدين العام المتزايد ويتضمن ذلك تحسين إدارة الإيرادات والنفقات العامة، وضمان فعالية تحصيل الضرائب”.
ويوضح فحيلي ان “إصلاحات الحوكمة تهدف إلى تعزيز الشفافية والمساءلة في مؤسسات الدولة، وهي جزء لا يتجزأ من استعادة الثقة في النظام السياسي والاقتصادي، وبدون تحسين الحوكمة، ستظل محاولات الإصلاح عرضة للفشل بسبب الفساد وسوء الإدارة.”
ولنجاح هذه الإصلاحات، من الضروري أن يتم التنسيق الوثيق مع صندوق النقد الدولي الدولي (IMF)، حيث يمكن للصندوق أن يوفر للبنان إطاراً واضحاً وشاملاً للإصلاحات المطلوبة، بالإضافة إلى مراقبة تنفيذ هذه الإصلاحات بشكل فعال. كما يُعتبر التعاون مع صندوق النقد الدولي خطوة أساسية لضمان حصول لبنان على الدعم الدولي، سواء من خلال نادي باريس أو من الدائنين الآخرين، وإعادة وضعه على مسار الاستقرار الاقتصادي، كما يقول فحيلي.
الاعتبارات الجيوسياسية والدعم الدولي
برأي فحيلي فان استقرار “لبنان يمثل مصلحة حيوية للقوى العالمية، وهذا الأمر قد يدفعها إلى تبني مواقف أكثر مرونة في مفاوضات إعادة هيكلة الديون، فعلى سبيل المثال، قد تقدم هذه القوى شروطاً تسهيلية في المفاوضات، تتضمن:
تمديد فترات السداد:
بدلاً من مطالبة لبنان بسداد الديون في آجال قصيرة، قد يتم تمديد فترة السداد لعدة سنوات أو حتى عقود، ما يخفف من الضغوط المالية على الحكومة اللبنانية، ويمنحها وقتاً لتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية الضرورية.
خفض أسعار الفائدة:
يمكن أن تكون شروط إعادة هيكلة الديون أكثر ليونة من خلال تقليل أسعار الفائدة المفروضة على القروض، مما يخفف من حجم الأقساط الشهرية أو السنوية، ويتيح للحكومة اللبنانية توجيه المزيد من الموارد نحو إعادة بناء الاقتصاد وتحسين الخدمات الأساسية.
الإعفاء الجزئي من الديون:
في بعض الحالات، قد يتم التفاوض على إعفاء جزئي من الديون، حيث تتنازل الدول والمؤسسات الدائنة عن جزء من ديونها في مقابل التزام لبنان بتنفيذ إصلاحات محددة أو تحسين الأوضاع الإنسانية والاجتماعية في البلاد.
الأبعاد الإنسانية في إعادة هيكلة الدين
ويعتبر فحيلي ان “الأزمة الاقتصادية في لبنان تتجاوز الأرقام المالية البحتة لتصبح أزمة إنسانية عميقة تمس كل جوانب الحياة اليومية للمواطنين. فالتضخم المفرط، البطالة المرتفعة، والانهيار الكامل للخدمات الأساسية مثل الكهرباء، الصحة، والتعليم، جعلت من الصعب على المواطنين تلبية احتياجاتهم الأساسية. وهذا الواقع المرير يضع ضغطاً كبيراً على الطبقات الفقيرة والمتوسطة، مما يؤدي إلى تفاقم الأزمات الاجتماعية وزيادة التوترات والاضطرابات”.
ويلفت إلى ان “إعادة هيكلة الديون من منظور إنساني يعني إعادة التفكير في الأولويات الاقتصادية لتخفيف العبء عن المواطنين الأكثر تضرراً، فعوضاً عن التركيز على الأرقام المالية البحتة أو جداول السداد الصارمة، يجب أن تكون إعادة الهيكلة مصحوبة بشروط تساعد في تحسين الأوضاع الاجتماعية والمعيشية”.
ويرى ان “إعادة هيكلة الديون من منظور إنساني ليست مجرد خيار، بل هي ضرورة لتحقيق استقرار لبنان ومنع المزيد من الانهيار الاجتماعي من خلال توجيه الجهود نحو تحسين معيشة الناس وتخفيف العبء عنهم، يمكن للبنان أن يمهد الطريق نحو مستقبل أكثر استقراراً وازدهاراً”.
ويختم فحيلي بالقول: “يُعتبر هذا النهج المتوازن بين تحقيق الاستقرار المالي وتخفيف المعاناة الإنسانية المفتاح لضمان نجاح أي عملية إعادة هيكلة للديون في لبنان، ويمثل الوضع الحالي في لبنان لحظة حرجة لإعادة التفاوض على ديونه، لذا التنسيق مع نادي باريس وصندوق النقد الدولي، إلى جانب التركيز على الإصلاحات والاعتبارات الإنسانية يمكن أن يوفر له فرصة ذهبية لتحقيق استقرار اقتصادي واجتماعي طويل الأمد، وعليه الاستفادة من هذه اللحظة الحاسمة لانتزاع شروط تخفيف ديون مؤاتية، وإلا فإن تأجيل التفاوض قد يؤدي إلى شروط أكثر صعوبة في المستقبل”.
مصدر الخبر
للمزيد Facebook