الدكتور رزق زغيب يقرأ في مطالعة فياض: الدولة لا تكون انتقالية والمقاومة مؤقتة
وبالانتظار، بدأ الحديث الجدي حول اليوم التالي للحرب في المنطقة ككل، وسط ترقب لما ستكون عليه المعادلات السياسية الجديدة في الإقليم بعدما نجحت إلى حد كبير جبهات المساندة لغزة من فرض وقائع جديدة على المستويات العسكرية والأمنية، علماً أن النائب علي فياض كان قد أشار في مداخلته في مؤتمر “تجدد للوطن” الذي عقد في 1/6/2024 في البيال إلى أننا بتنا أمام واقع إقليمي، تبدو فيه إسرائيل أكثر ضعفاً وأميركا أقل تأثيراً ومحور المقاومة أشد فاعلية. ويرى أن من المفيد التذكير بمعطى تاريخي حيوي بعد مرور أكثر من قرن على تأسيس الكيان اللبناني، ذلك أن قسماً من اللبنانيين في عام 1920 لم يتمكن من قراءة تحولات النظام الإقليمي في تلك المرحلة الخطيرة، فدفع ثمناً سياسياً باهظاً، رغم أنه جنى مكاسب أخلاقية ومعنوية جليلة. وفي عام 2024، يخشى فياض أن يكون القسم الآخر من اللبنانيين عاجزاً عن قراءة التحولات التاريخية التي يشهدها النظام الإقليمي في هذه المرحلة، ويدفع ثمن القراءات والحسابات الخطأ.
الحلقة الثانية عشر: مساهمة البروفسور في كلية الحقوق والعلوم السياسية لدى جامعة القديس يوسف والمحامي في الاستئناف الدكتور رزق زغيـــــب في مناقشة مداخلة فياض.
يقول الدكتور رزق زغيـــــب : لا بدّ بداية من تثمين مبادرة النائب الدكتور علي فياض والتي تشهد له مسيرته الراقية على الصعيد الاكاديمي والسياسي والبرلماني علواً في التفكير وترفعاً في المقاربة ودماثة في الخلق . وها هو يثبت ذلك مرة أخرى ، فالرجل الملتزم سياسياً وعقائدياً وحزبياً لم ينكفئ إلى الدائرة الضيقة المكوّنة من الحزب أو الطائفة أو المنطقة بل تجاسر على كل أشكال الانغلاق على الذات وذهب بخطى جريئة وواثقة في آن لملاقاة الآخر في الوطن محاولاً ، على طريقته ، تهدئة هواجسه وطمأنة مخاوفه بهدف اجتراح الحلول “نحو استقرار ممكن في ظل نظام إقليمي جديد” .
أراد الكاتب في المحاضرة التي ألقيت في مؤتمر حركة التجدد الوطني والمنشورة في جريدة الأخبار في عدد الخميس 27 حزيران 2024 مقاربة الوضع اللبناني “من الناحية السياسية وليس الأكاديمية” فتناول مفاهيم متعلقة بالموقع والدور على أن الاول “أكثر انشداداً للحقائق الصلبة الكبرى فيما الثاني يخرج من الفعل السياسي وهو اكثر تأثراً بالسياسة والوقائع المتغيّرة” .كما حدد النائب المفكر ثلاث مستلزمات لإنجاح أي حوار أو مبادرة أو عقد طائفي جديد وهي: “المصارحة والمسؤولية والتوافقية على أن تكون المقاربة المنهجية الحالية بعيدة عن المنهجيتين البائستين السائدتين لبنانياً أي مقاربة المجاملات ومقاربة الشعارات” .
ويقول زغيب: لقد قارب المحاضر الوضعية اللبنانية في بعديها الداخلي، المحصور حسب وجهة نظره بالطوائف ككتل متراصة، مصّنفاً اياها بحسب هواجسها وكيفية طمأنتها ، والخارجي مرتكزاً على قراءة في الإقليم وموازين القوى الجديدة في المنطقة المبنية بالمختصر على أفول النظام الليبرالي الأميركي الامر الذي ينسحب بالتالي أيضاً على حلفائه في المنطقة وفي طليعتهم الكيان الإسرائيلي وصعود متنامي لمحور المقاومة وعلى رأسه الجمهورية الإسلامية في ايران مدعومة من الصين الشعبية وباقي الحلفاء، داعياً اقرانه اللبنانيين بشكل لا يدعو إلى اللبس إلى فهم اللحظة التحولية التي تمرّ بها المنطقة وعدم الخطأ في الحسابات. وفي هذا السياق يجدر التنويه بأمانة الكاتب العلمية والتي تتجلى بإقراره الصريح أنه بالرغم من التقدم على الصعيد الجيوسياسي لمحور المقاومة فإن هذا المحور يواجه صعوبات جمة على الصعيدين الجيواقتصادي والجيواجتماعي ما ينذر بتحوّل الهشاشة الدولتية في لبنان إلى هشاشة مجتمعية تؤدي إلى “صوملة” الوضع اللبناني وتفتيته اكثر فاكثر .
ويضيف زغيب: لم يفت الكاتب تركيز منطلقات اي حوار مطلوب بين اللبنانيين على ارضية مشتركة تتسّم عامة بالسلبية وتذكّرنا بلاءات ميثاق 1943 التي لا يمكن اختصاره بها ، وهي رفض التوطين والتوجس من آثار النزوح السوري ومناهضة استمرار احتلال مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وغيرها من الاراضي اللبنانية ودرء اي خطر يهدد الموارد اللبنانية في الآبار الغازية والنفطية والعمل على ترميم العلاقات بين لبنان والدول العربية. كما يتطرق إلى علاقة الدولة بالمقاومة فيجد “ان المقاومة لم تسع يوماً إلى الزام الحكومة اللبنانية بتحالفاتها وخصوماتها ، ولا دفعت باتجاه أن يكون تموضع لبنان الرسمي في النظام الاقليمي حيث تتموضع المقاومة نفسها” . ليعود ويؤكد إلى أن “دائماً ما نظرت المقاومة إلى اهمية الانسجام والتكامل بين الدولة والمقاومة مع ابقاء مساحة فاصلة بينهما اذ لا تصل العلاقة بينهما إلى حد المطابقة التي تلغي الهوامش التي تخدم المصالح وتراعي الخصوصيات اللبنانية” . ثم يخلص إلى طرح سؤالين كبيرين “سؤال الدولة وسؤال الحماية والسيادة” الاول بنظره “يتعلق بالحاجة إلى الاصلاح البنيوي بالمعنى العميق للكلمة ، والثاني يتعلق بالحاجة إلى المقاومة”، مما يستدعي وفق تصوره استجلاب الحاجة الحيوية إلى منهجية تبادل الهواجس والضمانات بين المكونات، فيعود إلى ما بدأ فيه محاضرته القيّمة .
بالإشارة إلى ما تقدم ، ولسلامة النقاش ، يقتضي، وفق زغيب، التوقف عند بعض المصطلحات والتعابير بهدف تعريفها وتحديدها بشكل دقيق لزوم أن يكون أي حوار واضح المعالم وهادف المرمى .
من نافل القول، وفق دكتور زغيب، أن النظام الدولي قد تطور خلال القرون الأربعة الماضية نحو نظام مبني على اساس دولتي. حيث أن الدولة الحديثة أو الدولة السيدة ذات المواصفات المحددة والتي تكرّست رسمياً مع معاهدات وستفاليا لعام 1648 ، باتت الحجر الأساس في العلاقات الدولية، وما زالت، وبالرغم من التطور المضطرد والنمو المذهل للشركات العالمية الخاصة والاسواق المالية والمنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية، الفاعل والمحرّك الاساس لهذه العلاقات ، وهي بلا شك تأخذ مدى أوسع وحيّزاً أكبر عند اندلاع الحروب وانتشار الأوبئة والكوارث الطبيعية، ليخّف وهجها في زمن النمو الاقتصادي والسلام العالمي لصالح المنظمات والهيئات العابرة للحدود والتي هي اساساً وليدة الرأسمالية العالمية . وتبقى الدولة بسيادتها التامة قانوناً والنسبية واقعاً في عالم مترابط أكثر فأكثر رغم التمايزات الآخذة في الإتساع ، الإطار الأوحد والرمز الساطع لتحقيق إرادة الشعوب واستقلالها والتعبير عن كل ما تختزنه من ثقافة وغنى فكري ومادي وحيوية على الساحة الدولية . وتقتضي الملاحظة في هذا السياق أن نشوء الدول واضمحلالها وتبدّل الحدود السياسية للجغرافيا في النظام العالمي الحالي ليس بالعملية السهلة، فهو نتاج تراكم نضالي طويل وحصيلة لحظة تاريخية محددة تسمح فيها الموازين الدولية من حصول هكذا حدث . فبعد أن كان عدد الدول لا يتعدى العشرة دول في القرن السابع عشر ، جلّها في القارة الاوروبية، ازداد العدد بعد أن عمّ اميركا اللاتينية اولاً في بداية القرن التاسع عشر ثم أصقاع المعمورة كافة في القرن العشرين مع حركة الانعتاق عن الاستعمار ، فارتفع عدد الدول من خمسين في بدايته إلى اكثر من مئة وسبعين في نهايته دون أن يعني ذلك بتاتاً سهولة تمكن الشعوب من بلورة دولها. والأمثلة على ذلك زاخرة ، فالشعب الكردي الذي يشكل كتلة بشرية مهمة ممتدة على بقعة جغرافية متلاصقة ومتشظية على أقاليم اربع دول متجاورة، وذات إرادة استقلالية واضحة ومستمرة، غير قادر حتى تاريخه على تكريس فكرة استقلاله ضمن دولة سيدة في أروقة مراكز القرار الدولي . ولعلّ المثال الأبرز والأقرب لنا في هذا السياق يكمن في نضال الشعب الفلسطيني الممتد على نحو قرن من الزمن والهادف إلى إقامة دولة تُعبّر عن وجوده واستقلاله ، وهو مبتغى توالت الفصائل الفلسطينية على حمل لوائه دون التمكن من تحقيقه حتى تاريخه بالرغم من الدموع المنهمرة والدموم المراقة والانجازات البارزة مما يذكّرنا بشعر الجواهري: خلــي الـــدم الغالـــي يسيــــل أن المُسيلَ هو القتيل برك الدماء عن المواطئ حرة ثمنـــاً قليــلُ.
وعليـه يظهر جلياً، بحسب البروفسور في كلية الحقوق والعلوم السياسية لدى جامعة القديس يوسف، أن الثابت الوحيد في الكيان اللبناني كما في أي كيان آخر هو الدولة التي لا يمكن أن تكون انتقالية على ما يتفضل به النائب فياض مستعيناً بأدبيات ماركسية في هذا المجال وذلك على عكس بعض مظاهر النظام السياسي التي يمكن أن تكون انتقالية، أما المقاومة فهي مؤقتة وعلّة وجودها تكمن قانوناً وواقعاً في انعدام قدرة الدولة على القيام بما يتوجب عليها للحفاظ على السيادة الوطنية واستقلال ووحدة وسلامة أراضي الجمهورية . فطرح النائب فياض “لسؤالين كبيرين سؤال الدولة وسؤال الحماية والسيادة” وكأنهما إطارين مختلفين لا علاقة عضوية قائمة بينهما طرح يجانبه التوفيق بنظرنا ذلك أن الأول ينبثق من الثاني لتصبح معه السيادة خاصية أساسية وحصرية من خصائص الدولة ، حيث أن مفهوم الدولة ومفهوم السيادة ، كالجسد والروح ، صنوان لا ينفصلان . فالسيادة التي كانت تعود سابقاً إلى الحاكم وحالياً إلى الشعب الذي يمارسها عبر المؤسسات الدستورية ، اذ يوكلها بصفته صاحبا للسيادة ومصدرا للسلطات ممارسة وظائفها كافة من اعمال الحكم اليومية وصولاً إلى حسم وتحديد التوجهات الكبرى والخيارات المصيرية التي تعني جمهور الرعية باكمله ، فتصبح الدولة حاملة للسيادة وحامية لها . ويبقى من القصور في مكان حصر السيادة بالدفاع عن الارض أو المقاومة ، فبالاضافة إلى هاتين المهمتين الاساسيتين يخول مفهوم السيادة الدول اصدار العملة الوطنية وتولي القضاء بين الناس وإعادة توزيع الثروات وتنظيم الموازنات وحماية الحريات الفردية منها والجماعية. ومن الثابت تاريخياً أنه عندما تنتصر المقاومة على المحتل أو تحقق طموحات شعبها بتقرير المصير وإنشاء الدولة ، تصبح المقاومة هي الدولة، أي تستلم زمام الحكم عبر إرساء نظام سياسي جديد . أما في لبنان فقد نجحت المقاومة في تحرير الارض في ربيع العام 2000 ، وقد استلمت الحكم في ما تمثله طائفياً من حصة في النظام اللبناني وذلك على أثر الانتخابات النيابية في عام 2005 وحتى تاريخه حيث ينحصر التمثيل النيابي والوزاري للطائفة الشيعية في تنظيمي حركة أمل وحزب الله المتحالفين بشكل وثيق . ومن هنا يستحيل إعفاء المقاومة من مسؤوليتها في ادارة البلاد وتحميل كل أوزار الحكم وأخطائه إلى باقي الطبقة السياسية كما ذهب النائب فياض إليه بقوله “في التحليل العميق لحالة تداعي الدولة والانهيارات الاقتصادية والمالية وانحدار آداء الطبقة السياسية سنجد أن لا شأن للمقاومة في كل ذلك” . فالمقاومة مسؤولة بقدر مشاركتها في الحكم شأنها شأن باقي الأطراف السياسية اللبنانية . ولو كان للمقاومة الإسلامية في لبنان مشروع سياسي متكامل ومتناسق ذا امتداد وطني يضاف إلى العمل المقاوم اليومي فلربما استطاعت استلام السلطة بأكملها، الأمر الذي يحتّم علينا التطرق إلى التركيبة الطائفية اللبنانية التي أشار إليها بوضوح النائب فياض في محاضرته عبر إرسائه معادلة الطوائف والهواجس وتبادل الضمانات . فلكانت هذه المقاربة قد صحّت لو كانت الطوائف اللبنانية التي تشكل أساس تكوين العقد الاجتماعي اللبناني مقفلة ومغلقة يحكم كل طائفة الرأي الواحد فتجتمع الطوائف عبر تياراتها أو أحزابها الممثلة الحصرية لها وتعقد تسويات وتوافقات ذات طبيعة طائفية لتركيز حكم البلاد تقوم على قاعدة تبادل الضمانات والهواجس . إن هذه النظرة تتنافى مطلقاً مع حقيقة لبنان العميقة والتاريخية والتي هي في أساس تكوينه عنيت بها الحرية . فالحرية ليست حكراً على المجموعات بل هي في الأساس من سمات الافراد . إن اختزال المجتمع اللبناني في طوائف مغلقة ينفي الحرية الفردية للمواطن اللبناني كما يلغي التعددية داخل الطوائف والمكونات المجتمعية في لبنان . فبهكذا معادلة طائفية بحتة لا مكان لأحزاب علمانية أو قومية أو يسارية أو ليبرالية حتى . وهذا ما يناقض مساراً تاريخياً خبرته الحياة السياسية في لبنان منذ ما يزيد عن القرن . وبالفعل لا يجب أن يسهى عن بالنا أن النظام السياسي السائد حالياً في لبنان وإن بشكل انتقالي هو نظام طوائفي في قالب برلماني حيث تتمثل الطوائف التي يتكوّن منها المجتمع اللبناني، بموجب ميثاق العيش المشترك، في وظائف الدولة السياسية والقضائية والإدارية وفق آليات دقيقة حُددت نصاً أو عرفاً . وتجري موائمة هذا المعطى مع مبادئ النظام البرلماني القائم على فصل السلطات وتوازنها وتعاونها، فتتولى الحكومة التي تتمتع بثقة أغلبية مجلس النواب الحكم تحت رقابة السلطة التشريعية. ولا غرو في القول إن مراقبة الحياة الدستورية والسياسية في لبنان على مدى قرن تشي بأن النظام السياسي اللبناني ما كان ينعم باستقرار ينتظم معه عمل المؤسسات الدستورية بشكل ملحوظ إلا في الفترات التي كانت تتموضع فيها الجهات السياسية المختلفة في تيارين أو تكتلين اثنين عابرين للطوائف يتناوبان على السلطة ، فتتكون أكثرية سياسية متعددة الطوائف تتولى الحكم، وأقلية على نفس الدرجة من التنوع تقوم بمهام المعارضة، فتستقيم آلة الحكم ولا يتعرض الكيان للتصدع نتيجة شعور طائفة بأنها خارج السلطة، ذلك أن أقطابها السياسيين يتوزعون بين موالين ومعارضين وإن باحجام مختلفة . وما هيمنة الكتلتين الدستورية والوطنية على الحياة السياسية في عهد الجمهورية الأولى التي تميزت بالرقي، والنهج الشهابي من جهة والحلف الثلاثي وكتلة الوسط من جهة ثانية إبان الجمهورية الثانية الا مثالا ساطعا على ذلك ، ولا يجب علاوة على ذلك أن يغيب عن الأذهان أن كميل شمعون كان زعيماً شيعياً فيما شكل فؤاد شهاب قبلة لكثير من السّنة، أما كمال جنبلاط ورفيق الحريري فكان لهما اتباع كُثر من شتى الطوائف . وتظهر التجربة أيضاً أن هذا الاستقرار ما كان يلبث أن يهتز ويتلاشى إلا حين يفرط عقد هذا البنيان السياسي بجناحين والعابر للطوائف ، ويعود التمثيل السياسي إلى التشظي في عدد من الكتل النيابية التي يغلب عليها الطابع الطائفي كما هو حاصل الان ، فتقع أزمات سياسية تأخذ فوراً منحى طائفي وما تلبث أن تنزلق إلى منزلقات خطيرة يضطرب معها حابل الامن مع ما يستدعي ذلك من “تفاهمات ومعالجات وتسويات عابرة وعائمة تقدم حلولاً مؤقتة وظرفية للأزمات اللبنانية ولا توقف المسار الانحداري العام بواقع الدولة وما يتصل بها مؤسساتياً ووظيفياً” أو حتى البحث عن تطمينات ترضي الهواجس والمخاوف على ما يقول النائب فياض . وفي أيامنا الحاضرة ، خاصة منذ العام 2005، على أثر انتهاء عهد الوصاية السورية في لبنان بلغ هذا الانقسام العمودي بين مكونات المجتمع اللبناني حجماً غير مسبوق لا سيما في فترة بروز تكتليّ 8 و14 آذار على ضوء انتظام أكثرية ملموسة من ناخبي الطوائف المحمدية، السنية والشيعية والدرزية ، داخل تشكيلات سياسية أحادية، انحصر أو كاد ينحصر تمثيلها السياسي عبرها، بحيث بات لكل طائفة حزبها أو تكتل أحزابها ينطق باسمها ويعبّر عن هواجسها ويطالب بالمشاركة في الحكم من منطلق تمثيله الحصري لها الذي يُمنع على أحد منازعته عليه ، فبات تمثيل مجمل هذه التنظيمات ، على تناقضاتها، ممراً إلزامياً لتأليف الحكومات التي درجت العادة أن تطول فترة تشكيلها أمداً لا يراعي أي مهل معقولة وأن تصعب إدارتها متى شُكلت كونها تضم أضداداً، فيتبخر فيها مبدأ التضامن الوزاري، وتصبح آلية اتخاذ القرار وفق ما تنص عليه الفقرة الأخيرة من المادة 65 من الدستور متعثرة على أبعد حدود . إن هذا الواقع يقضي أيضاً على مبدأ تداول السلطة مع ما يرافقه من تفشي الفساد كظاهرة طبيعية للاستمرار اللامتناهي في الحكم من قبل الجهات عينها . وقد بلغت الأمور ذروتها في العقد الأخير حيث باتت الحكومات أشبه بمجلس إدارة طوائف أكثر منها حكومة في نظام برلماني، فضلاً عن أن فترات تصريف الأعمال من قبل الحكومات قد فاض حجمها عن ما يزيد عن ربع السنين العشرين الماضية . إن هذا الوضع المأزوم لآلة الحكم والذي بلغ مبلغاً لا يطاق، بات يهدد أسس النظام السياسي في لبنان ويجعله غير قابل للاستمرار في صيغته الحاضرة ، فبدأت ترتفع أصوات تنادي باعتماد خيارات جذرية تصل إلى حدّ المطالبة بإدخال تعديلات جوهرية على النظام الحالي الذي بات يتراءى للبعض أنه يلفظ أنفاسه الاخيرة .
ويضيف دكتور زغيب: لا بد من إعادة انتظام الحياة السياسية في البلاد بين تكتلين سياسيين عابرين للطوائف ، فتتمكن اكثرية نيابية مركبة ، متراصة سياسياً ومتنوعة طائفياً ، من الحكم تحت رقابة أقلية تسعى بدورها إلى أن تتحول إلى أكثرية . ذلك هو المدخل الإجباري لإعادة توفيق مستلزمات التمثيل الطائفي المستمدة من ميثاق العيش المشترك مع آليات عمل نظامنا البرلماني بحيث تتمكن عجلة هذا النظام من الدوران باستمرار . وهذا المبتغى لا يتأمن إلا من خلال تحقيق تنوع سياسي داخل كل طائفة ينعكس تمثيلاً نيابياً تحت قبة البرلمان ، بحيث تتحالف أكثريات طائفية مع اقليات طائفية أخرى تتمتع بتمثيل نيابي غير مشكوك بشرعيته ، فتنشأ تكتل على مساحة الوطن قادر على الحكم ، دون أن تشعر طائفة ما لم يحالف الحظ الأكثرية فيها من دخول جنة الحكم بالغبن والأبعاد، ذلك أن تمثيلها داخل مؤسسات الدولة يبقى مؤمناً، فتنظم الحياة السياسية ويخضع مفهوم السلطة من جديد لمبدأي المسؤولية والتداول، وتصبح هناك قناعة لدى المواطنين أن الحكم الذي يرعى أمورهم شرعي وفعّال في آن . ولا غلو في القول إنه يقع على كاهل المقاومة حِمل ثقيل على هذا الصعيد، إذ على مكّونها السياسي أن يسعى بكل طاقته لتكوين هكذا تكتل عابر للطوائف بدل أن يذهب مذهب تفضيل الحصن الطائفي الحصين بحيث يحوّل الطائفة الشيعية إلى قلعة مقفلة ، الأمر الذي يستجلب ردّة فعل مشابهة لدى الطوائف الأخرى مع ما يشكله من مدخل إلزامي للتصادم بينها وينعكس سلباً على فكرة المقاومة مفهوماً ووظيفة، وتحلّ الهواجس محل المشاريع السياسية الرامية إلى النهوض بالبلاد والعباد، وتتكرّس المخاوف الوجودية بدل نشوة الانتصارات الانتخابية، فيصّح حينها ما جاء على لسان المفكر والوزير والنائب السابق ادوار حنين حين قال “في كل مرة يستقل لبنان يهتز وفي كل مرة تحميه حماية يعتز” ، ملّمحاً إلى حقبات المتصرفية والانتداب ونضيف اليها الوصاية السورية حيث ساد فيها استقرار اكتفى خلاله اللبنانيون بصورة السلطة وبهرجتها متخلين عن جوهرها إلى الغريب أو الشقيق . صحيح أن لبنان بلد يتكوّن على حدّ قول ميشال شيحا من أقليات طائفية متشاركة كاطراف عاقدة للميثاق الوطني الذي تقوم عليه أسس الدولة المستقلة، إلا أن هذا التنوع يتميز بالانفتاح وليس بالانغلاق بدليل أن النظام السياسي القائم في لبنان، وعلى عكس ما هو متداول وشائع وسائد، ليس بنظام ديمقراطي توافقي حيث أن أي من الطوائف في لبنان لا تملك حق النقض لوحدها بموجب النص الدستوري والنائب وإن خُصص مقعده لطائفة إلا أنه لا يمثلها تحت قبة البرلمان بل يمثل الأمة جمعاء. إن الإيغال في ممارسات الحكم التوافقي المرتكزة على حصرية تمثيل الأحزاب لطوائفها يشلّ قرار الحكم في الحد الأدنى ويدفع نحو الصوملة كحد أقصى فيعيق الدولة على حد قول النائب فياض مما يدفع المقاومة لزاماً إلى محاولة إبقاء هامش حركة خاصة بها وتسعى إلى إبقاء مسافة فاصلة بينها وبين مركز القرار في الدولة فلا تصل العلاقة بينهما على ما يشير الكاتب أيضاً إلى حد المطابقة خوفاً أساساً من شلّ حركتها على ما نعتقد جازمين . فبقدر ما تعود عجلة اتخاذ القرار إلى الدوران بقدر ما يعود الحكم خيار فقرار فاعل ، فتصبح الاستراتيجية الدفاعية كحل مرتجى ذي جدوى .
وفي هذا السياق، يقول زغيب: لا يسعنا إلا التنبيه أن نقاط التلاقي بين اللبنانيين تتجاوز بكثير النقاط الخمس التي حددها النائب فياض حيث أن ما يجمع اللبنانيين من قواسم مشتركة وتاريخ مشترك ونضالات وتضحيات مشتركة ومصالح مشتركة وثقافة حرية وابداع والتي لم تكن الليالي اللبنانية التي احتضنتها ادراج بعلبك منذ العام 1957 في عرين المقاومة اولى تجلياتها ، أكبر من أن يُحصر في هذه النقاط الخمس . ومن ناحية أخرى ، لا يمكننا إلا أن نضيف إلى شروط الحوار التي أشار اليها النائب فياض وهي “المصالحة والمسؤولية التوافقية” شرط أساسي وبديهي لسلامة أي حوار وصحته وهو المساواة أو التكافؤ بين المتحاورين بحيث لا يشعر أحد بأي فائض أو نقصان في قوة الموقف الذي يحمله تجاه باقي الافرقاء.
لا شك أن مبادرة النائب فياض، وفق زغيب، في غاية الاهمية فالمقاومة وبحسب موازين القوى الإقليمية والمحلية باقية على ما يبدو ومستمرة وهي لا شك أيضاً عنصر قوة للبنان يمكن التعويل عليه في الصراع المرير القائم مع العدو الاسرائيلي كما أنها قامت بكل ما يقتضيه الواجب لحماية لبنان من الخطر التكفيري والارهابي في الأمس القريب . فإن كانت المقاومة اليوم حاجة وطنية لبنانية قبل كل شيء ، إلا أن السؤال الذي يبقى جاسماً على صدورنا ، والذي لم يقدم النائب فياض إجابة شافية عنه هو كيفية الموأمة بين مشروع بناء الدولة ومشروع المقاومة بحيث لا تنهك الثانية الاولى لأنها بحاجة ماسة إليها شأنها شأن حاجة الشعب اللبناني لدولة حضارية عصرية متطورة تحفظ له حقوقه وتصونها وتحكم من خلال مؤسساتها الدستورية بعدل وانصاف بين جميع ابنائها.
وفي الخاتمـة، يلفت دكتور زغيب إلى مقال صدر مؤخراً في صحيفة الشرق الاوسط بتاريخ 25 تموز 2024 يستذكر فيه الصحافي غسان شربل “منظمة ايلول الاسود” و”اولمبياد ميونخ” فيبدأ مقاله بالتالي : “كان يحيى السنوار في العاشرة من عمره حين هزت منظمة أيلول الاسود الفلسطينية في العام 1972 شباك دورة الالعاب الاولمبية في ميونخ وجابت صور جثث المهاجين والرهائن العالم باسره . نحو مليار شخص تابع ما سميت “مجزرة ميونخ” التي اختلط فيها الرصاص الالماني بالرصاص الفلسطيني وكان ذلك قبل هبوب رياح العولمة وولادة الهاتف الذكي . وبمقاييس تلك الأيام ومسرح الحادث غير المسبوق يمكن وصف ما حدث بأنه طوفان لكنه انطلق على الأرض الاوروبية” . فجلي بعد مرور أكثر من خمسين سنة على هذه الأحداث أن الصراع طويل ومكلف ويدفع إلى طرح سؤال مشروع قد تكون عناصر الإجابة عليه ليس ملك اللبنانيين وحدهم : ما هي حدود النضال اللبناني في هذا الصراع وما معنى الانتصار أو الحفاظ على المقاومة اذا أدى هذا المسار إلى افراغ لبنان من ابنائه ومعناه .
مصدر الخبر
للمزيد Facebook