المطران جورج خضر المعلم الكثير النقاء
عَرفتُ المطران جورج خضر ، المؤمِن الشامخ من خلال ( آحَاداتِه و سُبوتِهِ ) في جريدة { النهار } ، وتعرفت إليه اعمق من خلال مقابلات طويلة أجريْتُها ضمنَ مَلفّاتٍ في ( ثقافية النهار ) بإشراف شوق أبي شقرا ، وأبرزها مِلفّانِ شاركَتْ بها نُخَبٌ مُفَكِّرَةٌ ومُثّقفة ، هما ( المُثَقَّفُ والإيمان ) و ( المُثقَّفُ والمَوْت )..!
وادمنت التثقف عليهِ والغَرْفَ من شموخيته و مهابَةِ فكره الى أن اصبحتُ من مُريديهِ و مُقلِّدي فِكرِهِ الإيمانيِّ المنبسط شَرْحاً في المَنظوراتِ ، والعَمِيقِ الغَوْرِ في الماورائيّاتِ ، والذي أَجْهَدَ و اجتهد لإبتكارِ مصطلحات و تَوليفِ تراكيب ولفظيات تتوافق مع مخزونه الفكري وفلسفةِ الايمانيات العقيدية التي كان يَستنِدُ إليها في كتاباته و عظاته و قولاته لتتواءم مع مستلزمات اي ظرف و متطلبات اي مَوقف.
في منهجية نَقْدِ الخطاب و فهمه، تَعَلَّمْنا قاعدة ذَهَبْاً في عمليةِ التفكيك والتَحليلِ، مفتاحها أن اول قطعة يتم تفكيكها بهدفِ التحليلِ والفَهمِ ، تكون اخر قطعة علينا رصفها في إعادةِ التركيب.
من هذا المنظورِ الأسلوبي الكثير المعجميات المتخصصة في الدينِ والفلسفة والتاريخ والحضارة، بَنى المطران جورج قاموسه الكتابي الخاص ، و اسس مدرسة فكرية إلهامية ، انتسب إليها كثيرون عن فهم و قصد و إرادة شديدة بالتثقف ، إنضَم الى صُفُوفِها كثيرون رغبة بالاستزادة و الفهم اكثر ، لان الناهل من نبعه يغب غباً متى غَرف و رشف و استهناء ، و يتمنى لو ان بمقدوره أَنْ يعتمد بمَجرى مَاءِ فكره مَرَّتَين.
في مجموعةِ عظاته و مقالاته الصادرة في مجلدات ثلاثةٍ بعنوان {{ المُعَلِّمُ }} ، والموزعة على ثلاثةِ محاور متكاملة المواضيع و متقنة التصنيف و مُحكمة التوثيق بين الأعياد السيديّة و القديسين و آيات وطقوس ، والتي اهداني إياها القاضي الرئيس #نسيب_إيليا ، حَرِصَ سيادتُهُ أَنْ يكتب للنخبة التي تريد أَنْ تقرأ وتَغتذي وتنمو بالمعرفة. ولمْ تَكٌ اسلوبيته هذهِ شكلاً من صنوف الكتابة الارستقراطية أبداً ، بل إنه لشدة غرقه بالمسيحِ فكرا وايمانا وسلوكا، وتشبها بالسيد وجَعاً و حِكمة و حبًا بالمَصلوبِيَّةِ ، جاءَتْ مَقَالاتُهُ كِتاباتٍ نوعية وأفكارًا متنوعة و نسيج وَحْدِه.
وهذهِ من علاماتِ التمايز في صِناعةِ الكتابةِ المَضغوطَةِ والشديدةِ الإختزالِ والكثيرةِ اللُصُوقِ بالمَقَاصِدِ التي ارتكزت عليها بِنائِيَّاتُ النص المختلف .
المطران الملفان جورج خضر ، عَلّامةٌ بِبَساطَتِهِ ، فَهَّامَةٌ بطروحاتِهِ ، رسولي بِعظاتِهِ العمقية ، و مِثالِيٌ بِفُقْرِهِ الى اللهِ الذي نراه في محياه، والعفيف بشدة عن مباهِجِ الدنيا، و الدائم التَوْقِ لملاقاة ربهِ بثوبه الأبيض الكثير النورِ و طَلَّتِهِ ذاتِ البَهاءِالباهِر .
سِرُّ المِهنَةِ في أسلوبيِّةِ كتاباته العِظات التي توزّعت بين 1972 و 2005 ، أَنَّه كان يعرفُ ماذا يكتبُ ؟ و عن ماذا يكتبُ ؟ وكيفَ يكتبُ ؟ ومتى لا يكتُبُ؟
لكنَ الُّلغْزَ الأصعَبَ كانَ في السؤال الخامس ( لِمَنْ يَكْتُبُ؟
وفي مقالٍ لي في النهار ) 1999 حول أسلوبياتِ الخِطابِ في عظاتِ المطران جورج خضر و مقالاته ، والتي كانتْ تِشْكَلُ أفْهامُها على كثيرين لإغراقهِ نَصَّهُ بالفلسفياتِ والتعريفاتِ والإستشهاداتِ الكِتابيَّة ، أنتهيتُ الى خُلاصَةٍ ، على مسؤوليتي ،هي أنَّ المطران جورج خضر يَكْتُبُ لِيُسْمَعَ و يُفْهَمَ، بمعنى أنّه يكتُبُ للأُذُنِ وليسَ لِلعَينِ…حَسٌبُهُ أنَّهُ مَذْبَحِيٌ يرى الى كلِّ الناس على أنّهم جالسونَ في الصفوفِ الاولى لكنيسة الأحدِ ، وأنّهُ الواعِظُ /الراعي الحَريصُ على الخرافِ ، والجَوهَرجِيُ الصائِغُ الذي يَحْتَرِفُ تَركيبَ الدُرَرِ في واسِطَةِ العِقدِ الكثيرِ الفرادةِ والغنيِ بالجَمال..!
المطران جورج خضر ، اللبناني العربي الفخورُ بِمَجْديَّاتِ كنيسته البيزنطية الأنطاكية ، هو الرسول الثالث عشر من تلامذةِ المُعلِّمِ الرَّب الأحياء.
تشرفت تبركا ذات يوم بِزيارَةِ سيادةِ المطران جورج خضر في مقرِّ المطرانية ببرمانا وكانتِ جلْسَةً عابقَة بذكريات، إِسْتفاضَ سيادتُهُ بِنَبشِها من مَخزوناتِ فِكْرِهِ الوَقَّّادِ وعِلْمهِ الواسعِ وروحانياته البخورية، التي يَسْتَلِذُُّها كُلُّ مُريدٍ للفَلسفةِ العقليّةِ ، ويَستَعذِبُها كُلُّ تواق لِلَّاهوتِيَّاتِ النَقِيَّةِ والأفكارِ الإنفتاحيّة والسلامِيَّة.
في حَضرَتِهِ ، تشعرُ أنكَ في هياكلِ الإغريقِ، أوْ في رِواقاتِ الأكاديميَّةِ الفرنسيّة ،و محاربِ الفكرِ الإسلامي أَوْ آنك في مجمع لغوي وفَلسفي فِكْرِيٍّ إغريقي عريقٍ.
المطران خضر ، قيمة روحية مسكونية مشرقية بيزنطية عربية لبنانية يستحق أنْ يكونَ عنوان لبنان !
هو رجلُ إيمانٍ يلبس البساطَةَ اسكيما !
دائِمُ البَسْمَةِ ،رَضِيُّ المُحَيّا، وَفيرُ النِعَمِ كثيرُ البركاتِ…!
معهُ، تعيشُ أنّكَ إبْنُ الرَّبِ وأنَّ الله الذي نُحِبُّ، هو ليسَ اللهُ الذي تعالى وتعالى حتى صارَ بعيداً عَنَّا ، بَلْ هو اللهُُُ الذي تنازلَ وتنازلَ حتى صارَ قريباً منّا و تفاعل معنا و عاش بيننا و سكن فينا
كتاباته وليمةِ فكريّة و روحية ذاخرة بالمشهيات اللذة، والقدسية النَكْهَة.
هو المطرانُ رَجلُ الإيمانِ ، الذي تَليقُ بِهِ الكرامة والفيلسوف الايماني اللّابسُ اللَّه بساطةً وسلوكاً، قَالَ كلمته وقرَّرَ أَخْذَ نقاهةٍ من العملِ في حَقْلةِ الرَّب . هو تقاعد من الخدمة و ما تقاعد عن المحبة و شعاعية الفكر المنير و دوام العطاء .!
هو إستجاب َ لنداءِ العُمْرِ ،أصْغى الى جسدهِ، وإختارَ أنْ يبقى للكنيسة ومع الكنيسةِ وفِي الكنيسة مكللا بِنًعمةِ الروح ِ القدس وملتحفا بالنور الإلهي !
اللَّهُمَّ أَعْطنا نقاواتٍ مَنْ أمثالهِ حتى تبقى خميرةُ الروح ِفي مخازن حنطةِ هذا العالم الترابيّ…!
أَمَدًّ الله بعمركَ يا مطران الكلمة و منحك بركاته الانجيل الحي الذي شدني اليه بهَدأَةِ وقارِهِ وعظمةِ فلسفتهِ وبساطةِ عَيْشِ الإيمانِ …
هو الكلمة التي قالها من قلبهِ وعقلِه، وأنْصتَ اليها مريدوهُ ، وردَّدها مُقَلِّدوه بِدَمْعِ فرحِ الإسْتكانةِ الى نِعَمِ الآب…
هو الذي تعلمت عَلَيْهِ في عِظاته النهارية ، كيفَ نصوغُ الكِتابةُ للأُذُن، وكيفَ نقرأُ ببصيرةِ الفَهْمِ المَقْذوفِ في الصدورِ . نقرأُ ولا نشبَعُ ، نَفهمُ ونسمو ، ونعيدُ النَهْلَ لِنَنْموَ بالمعرِفةِ أَعْمَق…!
اقمار ارثوذوكسية ثلاثة، تعلَّمْتُ منهم وتربَيْتُ على نورانيَّةِ فِكْرهم العُمْقِيِّ، ولَمَّا زِلْتُ أَغْرفُ من مَفْجَرِ نباغتِهم و صوانية شخصيتهم، قَدْرَ ما تَيَسَّرَ لي مِنْ فَهْم، وما رغبته من مدارك، هم: المعجمي الدكتور جبّور عبد النور، الفيلسوف الواقعي غسّان تويني ،ومطران الكلمة جورج خضْر…!
ولكَ يا أخي القاضي الرئيس نسيب ايليا، فَضْلٌ أَوَّل بأَنْ وَفَّرْتَ لي اللقاءَ بسيادته ومِجالستِه ، والعَيْشِ في مهابةِ حَضْرتِه فَتَراتٍ، شعرتُ في خلالها أنني عُدْتُ الى مقاعدِ الدَرْس .هو يتكلَّمُ بِقطعِ النفَسِ، وأنا ادون بعقلي ما تمكنت منْ لحاقه ، عارِفاً أنَّني أمامَ هامةٍ قامَةٍ، و عقلٍ إسْتثنائي وَفِير المعرفةِ ، كثير الثقافة ، عميقِ اللّاهوت.
وفاءً، للمطران جورج خضر ، نُصلّي : لكرامةٍ غزيرةٍ يا سيِّد.
بلاغةُ عدالة القاضي و روحانية فلسفة اللاهوت الأبيض حفََزاني على التبصُّر و الصَفنِ و الكلام …فكتبتُ من بعضِ ما كتبَهُ فِيَّ المُعَلِّم ، و دَعَوْتْ لأن يكون أمثاله كثيرين…!
مصدر الخبر
للمزيد Facebook