الإعلام الأسود والرسم التشبيهي للحقيقة
؟ انه السؤال العمقي الذي تفرض دقة الظرف طرحه في زمن التضييع و الضياع و تفاقم الأزمات النزاعية الداخلية و الانقسامات الحادة التشظي التي تعصف بالبلد سياسيا و امنياً و اجتماعياً ، مع الملاحق الاقتصادية و الخلافية للأزمة و اثرها على واقع الحال اللبناني .
ميزة بعض الإعلام في لبنان انه يستثمر الحقيقة و يفاخر بها على القطعة و وفق سياسة داخلية خاصة بالمؤسسة ، في حين ان بعض الإعلام يستثمر باللَّاحقيقة فيطمسها و ينتحل صفة المفكِّر ، مدَّعِياً إمتلاك القدرة و الخبرة الإستراتيجية التي تمكنه من قول كلام و إختلاق شائعات لا ترقى إلى ان تكون اخباراً غير مكتملة العناصر ، فيمارس فنونو هندسات التجهيل و التزييف المبطن و المضلِّل لطرق كشف الحقائق و إعلانها . و يترافق ذلك مع ترويج مشروع الذهنية المادية للإعلام التي تجعل من إعلام النزاعات إعلامَ رهانات ، و تحوله إعلاماً هَشَّاً لا يميز بين سلبيات الرذيلة و حسنات الفضيلة . فصلاً عن انه يسهم بقتل المعرفة و يعزز الجهل و يمنع الوصول الى الحقيقة في مستوياتها اللفظية ، المعلومة و المكتومة و المجهولة و المُعْلنة و المكشوفة و المستورة . و لكلّ من هذه اللفظيات مستوياتها و مواصفاتها و تقنيات التعامل معها و فنون التداول بها و أصول استخدامها للإمعان بالأمساكِ بسياسة الالهاء و التزييف و تشويه صورة الحقيقة من خلال تقديم رسم تشبيهي للحقيقة و مكوناتها الرئيسة . فوظيفة الرسم التشبيهي ان يدل إلى الملامح التي يمكن ان توصل إلى معرفة الحقيقة و التأكد من مطابقتها لعلامات الرسم ،
و يتزايد توظيف أنماط التزييف و التجهيل و الإبعاد عن الحقيقة ، مع ظهور وسائل التواصل و انتشار فوضى المنصات و شعبوية المواقع الالكترونية ، و التحوُّل من الرصانة الاعلامية و الأخلاقية المهنية ، إلى المشاعات الخبرية و منصات الحكي الاستعراضي و الإستثماري . و تفرض عملية إنتاج مواد اعلامية معرفية متخصصة و صلبة، مواكبة التغيُّرات في عمليتّي الارسال و التلقي ، و التمييز بين خاصية المنتج كفرد او مؤسسة ، و خاصية المستهلك كجماعة تتطلب اعلاما متخصصا او جمهورا عاما منفتحا على حاجات معرفية متنوعة .
ينتج عن ذلك ان التزايد اللحظي للتحديات و الضغوط على وسائل الإعلام الرصينة و التعديات على خصوصياتها وحقولها المعرفية و مستوجباتها ، فرض التحوُّل من عملية وضع ضوابط مهنيّة و خلقية و سلوكات ميدانية للتعاطي بالشأن الإعلامي ، بحيث ان الأمر يتطلب الاسراع لوضع برنامج تأهيل الجمهور على فن التذوق و تقنيات الاختيار ، قبل الترويج لعملية الاستهلاك و إطلاق الاحكام على مدى جودة الخدمات الاعلامية و نفعيتها . إذاك تبدأ عملية التحصين و التمكين و بناء الذوق عند الجمهور المستهلك الذي تقع عليه مسؤولية اختيار الوسيلة التي يرتاح إلى رصانتها و يتأكد من صدقيتها و موضوعية معالجتها للأمور و كيفية تغطيتها للقضايا الساخنة ، مع وجوب التنبه إلى عدم الوقوع ضحية بيضاء لعملية المنافسة السوداء الحاصلة بين الوسائل و الطرائق الاعلامية و انعكاسها على صدقية العمل و أصول التسابق الشريف بين وسائل المعرفة و ادوات التواصل لتقديم مواد تحكمها ثلاثية الجودة و النوعية و الثقة . و الالتزام بمعايير هذه الثلاثية تؤكد ان تأهيل الجمهور و إعداده لإختيار الوسيلة الإعلامية الأنسب كمصدر موثوق للخبر ، هي أسهلُ من عملية توجيه وسائل الإعلام و ضبط حركية عملها الميداني و دفعه نحو الاستثمار الايجابي للخبر و فنون النقل و الإفهام .
ان عملية التزييف و التجهيل و هندسة التضليل التي يمكن ان تمارس من خلال بعض الاعلام ، من شأنها ان تؤدي إلى الإفلاس المعرفي الذي يجعل المجتمع عرضة للإفلاس و الانهيار ، ما يفرض العمل الهادف إلى بناء مجموعة معارف متماسكة ، و الاتفاق على وضع مفاهيم متنوعة تشكل مدخلاً إلى المعرفة الواسعة و ترشيد إدارة المعرفة المتخصصة ، تماما مثل علمية إدارة الاموال و قانونية ادارة الحكم . مع التأكيد ان وَهْمَ المعرفة هو عدو المعرفة الأكبر . و هذا ما يطرح خطر الإشكاليّة المرافقة لدور الإعلام في تقديم رسم تشبيهي للحقيقة ، في الوقت يملك فيه كل مفاصل الحقيقة و علاماتها الفارقة . فأي مسؤولية للإعلام الأسود في ممارسة سياسة الإبهام و الإمعان بجرم إخفاء الحقائق و قتلها ؟.
مصدر الخبر
للمزيد Facebook