آخر الأخبارأخبار محلية

الإعلام الأسود والرسم التشبيهي للحقيقة

كتب وزير الشباب والرياضة الدكتور جورج كلاّس: هلّ يجروء الإعلام على ملاحقة الحقائق و كشف الفضائح  و إعلانها كاملة ، أم ان له خاصية تحرك و قدرة محورية للتحايل على الواقع و تمكنه من تقديم  رسم تشبيهي  للحقيقة ، رفعاً للعتب و إبعاداً للشبهة ، بما يقرب من وضعية  استراتيجية  التضليل 

؟ انه السؤال العمقي الذي تفرض دقة الظرف طرحه في زمن التضييع و الضياع و تفاقم الأزمات النزاعية الداخلية و الانقسامات  الحادة التشظي التي تعصف بالبلد سياسيا و امنياً و اجتماعياً ، مع  الملاحق الاقتصادية و الخلافية للأزمة و اثرها على واقع الحال اللبناني .
ميزة بعض الإعلام في لبنان  انه يستثمر الحقيقة و يفاخر بها  على القطعة و وفق سياسة داخلية خاصة بالمؤسسة ، في حين ان بعض الإعلام يستثمر باللَّاحقيقة فيطمسها  و ينتحل صفة المفكِّر  ، مدَّعِياً  إمتلاك القدرة و الخبرة الإستراتيجية التي تمكنه من قول كلام و إختلاق شائعات لا ترقى إلى ان تكون اخباراً  غير مكتملة العناصر  ، فيمارس فنونو هندسات التجهيل و التزييف المبطن و المضلِّل لطرق كشف الحقائق و إعلانها . و يترافق ذلك مع ترويج مشروع الذهنية المادية للإعلام التي تجعل من إعلام النزاعات إعلامَ رهانات  ، و تحوله إعلاماً هَشَّاً  لا يميز بين سلبيات الرذيلة و  حسنات الفضيلة . فصلاً عن انه يسهم  بقتل المعرفة و يعزز الجهل و  يمنع الوصول الى الحقيقة في مستوياتها اللفظية  ، المعلومة  و المكتومة و  المجهولة و المُعْلنة و المكشوفة و المستورة . و لكلّ من هذه اللفظيات مستوياتها و مواصفاتها و تقنيات التعامل معها و فنون التداول بها و أصول استخدامها للإمعان بالأمساكِ بسياسة الالهاء و التزييف و تشويه صورة الحقيقة من خلال تقديم رسم تشبيهي للحقيقة و  مكوناتها الرئيسة . فوظيفة الرسم التشبيهي  ان يدل إلى الملامح   التي يمكن ان توصل إلى معرفة  الحقيقة و التأكد من مطابقتها لعلامات  الرسم ، 

و يتزايد توظيف أنماط التزييف و التجهيل و الإبعاد  عن الحقيقة ، مع ظهور وسائل التواصل و انتشار فوضى المنصات و شعبوية المواقع الالكترونية ، و  التحوُّل من الرصانة الاعلامية و الأخلاقية المهنية  ، إلى المشاعات الخبرية و منصات الحكي الاستعراضي و الإستثماري . و تفرض عملية إنتاج مواد اعلامية معرفية متخصصة و صلبة، مواكبة التغيُّرات في عمليتّي الارسال و التلقي ، و التمييز بين خاصية المنتج  كفرد او مؤسسة ، و خاصية المستهلك كجماعة  تتطلب اعلاما متخصصا او جمهورا  عاما منفتحا على حاجات معرفية متنوعة .

ينتج عن ذلك ان التزايد اللحظي للتحديات و الضغوط على وسائل الإعلام الرصينة و التعديات على خصوصياتها وحقولها المعرفية و مستوجباتها  ، فرض التحوُّل  من عملية وضع ضوابط مهنيّة و خلقية و سلوكات ميدانية للتعاطي بالشأن الإعلامي ، بحيث  ان الأمر يتطلب الاسراع لوضع برنامج تأهيل الجمهور على فن التذوق و تقنيات الاختيار ، قبل الترويج  لعملية الاستهلاك و إطلاق الاحكام على مدى جودة الخدمات الاعلامية و  نفعيتها . إذاك  تبدأ عملية التحصين و التمكين و بناء الذوق عند الجمهور المستهلك الذي تقع عليه مسؤولية اختيار الوسيلة التي يرتاح إلى رصانتها  و يتأكد من صدقيتها و موضوعية معالجتها للأمور  و كيفية تغطيتها للقضايا الساخنة ، مع وجوب التنبه إلى عدم الوقوع ضحية  بيضاء لعملية المنافسة السوداء الحاصلة بين الوسائل و الطرائق الاعلامية و انعكاسها على صدقية  العمل و  أصول التسابق الشريف بين وسائل المعرفة و ادوات  التواصل لتقديم مواد تحكمها ثلاثية الجودة و النوعية و الثقة . و  الالتزام بمعايير هذه الثلاثية تؤكد ان تأهيل الجمهور و إعداده لإختيار الوسيلة الإعلامية الأنسب كمصدر موثوق للخبر  ، هي أسهلُ من عملية  توجيه وسائل الإعلام و ضبط حركية عملها الميداني  و دفعه نحو  الاستثمار الايجابي للخبر و  فنون  النقل و الإفهام .

ان عملية التزييف و التجهيل و  هندسة التضليل  التي يمكن ان تمارس من خلال بعض الاعلام ،  من شأنها ان  تؤدي إلى الإفلاس المعرفي الذي يجعل المجتمع عرضة للإفلاس و الانهيار ، ما يفرض العمل الهادف  إلى بناء مجموعة معارف متماسكة ، و الاتفاق على وضع مفاهيم متنوعة  تشكل مدخلاً إلى  المعرفة الواسعة و ترشيد  إدارة المعرفة المتخصصة ، تماما مثل علمية إدارة الاموال و  قانونية ادارة الحكم .  مع التأكيد  ان وَهْمَ المعرفة هو عدو المعرفة الأكبر  .  و هذا ما يطرح خطر الإشكاليّة المرافقة  لدور الإعلام في تقديم رسم تشبيهي للحقيقة ، في الوقت يملك فيه كل مفاصل الحقيقة و علاماتها الفارقة . فأي مسؤولية للإعلام الأسود في ممارسة سياسة الإبهام و الإمعان بجرم إخفاء الحقائق و قتلها ؟.


مصدر الخبر

للمزيد Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى