آخر الأخبارأخبار محلية

قصص مؤلمة.. جرحى ومصابون غيّرت كارثة انفجار مرفأ بيروت حياتهم

في حياتهم لم تنته ساعات ذاك الليل الطويل ولم يبزغ فجره بعد. هو الرابع من آب ما زالوا يعيشونه كل يوم، ليس كذكرى بل كواقع يتعايشون مع تداعياته في كل لحظة. جرحى ومصابون غيرت الكارثة حياتهم، جعلتهم في منطقة وسطى بين الحياة والموت، الذي يتمنونه أحياناً. مصابون، جرحى ومعاقون يموتون موتاً صغيراً كل يوم، في أجسادهم كما في أرواحهم ترك الانفجار الجريمة كلوماً، قليلون تخطوها وكثر يعانون ندوبها.

 

1057 يوماً عاشتها ليديا فرعون بعد انفجار الرابع من آب ورحلت بصمت في الثامن والعشرين من شهر حزيران الماضي. منذ اللحظة الأولى كانت مصرة على أن يسجل اسمها بين لائحة الضحايا وظلت حتى اللحظة الأخيرة تصر أن وفاتها حين تحصل لن تكون إلا موتاً مؤجلاً بعد ذاك اليوم المشؤوم. 1500 قطبة احتاجت ليديا فرعون بعد الانفجار لمداواة جراحها التي خلفها الزجاج المتناثر الذي انغرز في أنحاء جسمها. توفيت وزجاج بيروت لا يزال يملأ جسدها كما تقول ابنتها لارا. خسرت أكثر من 60% من سمعها بعد الانفجار واحتاجت الى عمليتين جراحيتين مباشرة إثر الإصابة في ساقيها لتستمر بعد ذلك رحلة الألم والعذاب مع عمليات متكررة لإزالة قطع الزجاج من المناطق الحساسة بعد أن باتت تهدد الوظائف الحيوية. أصيب زوجها عصام في رأسه وجسمه وإن كانت الإصابة أخف من إصابتها لكن الالم والحزن عادل بين الإصابتين.

 

كذلك أصيب ناجي مخلوف الذي يسكن منزلاً قريباً جداً من المرفأ إصابة مباشرة أدخلته في غيبوبة تامة لمدة اسبوع وحين استفاق كان لا بد أن يخضع لجراحة فورية لترميم الجمجمة. مشوار المعاناة لم يتوقف بعد خروج ناجي من المستشفى بل بدأت رحلة من نوع آخر شهدت تحول هذا الزوج والأب الى إنسان آخر مختلف بشكل كلي عن ذاك الرجل «السوبر القوي» الذي كانه قبل الإنفجار. تقول نيكول طربيه زوجة ناجي: فقد زوجي كل ما يرتبط بالمشاعر والأحاسيس والقدرة على التخطيط للمستقبل كما فقد حاستي الشم والذوق. لم يعد لديه اي اهتمام بالحياة واصيب بما يشبه الكآبة. غيرت الإصابة شخصيته وقد عرفنا بعد جهود مضنية وبحث طويل ان إصابته تركت آثاراً في الدماغ في المنطقة المسؤولة عن الشعور وفق ما شرح لنا طبيب مختص استطعنا الوصول إليه بصعوبة بعد « تبويس ألف يد».

أما ليليان شعيتو فلم تدرك أن فرحة شراء الهدية التي كانت سترسلها الى زوجها المسافر سوف تكون آخر فرحة في حياتها ومن بعدها ستكون أيامها كلها مغمسة بالألم والحزن ومكللة بالظلم واللاعدل. كانت في أحد المتاجر في مجمع أسواق بيروت حين دوى الانفجار. واجهة المتجر الزجاجية الكبيرة سقطت عليها ولسوء حظها كان ذاك الزجاج مزدوجاً وسميكاً ومن النوع الذي لا يتفتت. من وزن الزجاج هوت ليليان وارتطم راسها بعنف بالأرض واصيبت على الفور بكسر في الجمجمة ونزيف داخلي. ستة أشهر قضتها ليليان في مستشفى الجامعة الأميركية وفق ما ترويه لنداء الوطن شقيقيتها نوال. وكانت تحتاج الى مركز علاج فيزيائي يساعدها في استعادة النطق والحركة وهنا بدأت مأساة من نوع آخر أتت لتصب الزيت على نار المعاناة الأصلية، فهي لم تستطع الخروج من المستشفى والانتقال خارج البلد للمعالجة لأن جواز سفرها لم يكن معها، رفض زوجها إعطاءه لها وفق ما تخبر شقيقتها. ناشد أهلها المسؤولين وتحولت قضيتها الى قضية رأي عام وتحت ضغط الناس والجمعيات تدخل اللواء عباس ابراهيم واستخرج جواز سفر لليليان وإذناً بالسفر.

أمضت الأم الشابة التي تحولت ايقونة ألم وظلم في مستشفى الجامعة الأميركية سنتين وثلاثة اشهر تكفلت فيها المستشفى بتكاليف العلاج فيما تكفل الأهل بالأدوية والاحتياجات اليومية. خضعت خلال هذه الفترة لأربع جراحات في راسها ووضعت تحت جهاز تنفس بعد أن تم ثقب قصبتها الهوائية لتستمد منه الأوكسجين.في الرابع من آب 2022 حصلت ليليان أخيراً على جواز سفرها واستغرق تأمين مركز خارج لبنان وإعداد تجهيزات السفر حوالى ثلاثة اشهر لتنتقل بعدها بواسطة طائرة إسعاف خاصة الى مركز تأهيل في تركيا، وقد احتاجت الصبية الى عملية جراحية في ساقيها لتستعيد بعض حركتهما وبدأت تخضع لعلاج فيزيائي مكثف وعلاج بالنطق من قبل إختصاصية لبنانية تتابعها أونلاين من بيروت وتؤمن لها الدعم النفسي. بدأت حالة ليليان الجسدية تتحسن نتيجة العلاجات، تحسن وعيها بنسبة 90% وصارت تستطيع تحريك يدها اليمنى وباتت قادرة على الوقوف مع مساعدة وعلى نطق بضع كلمات بسيطة… لكن حالتها النفسية لم تجد من يعالج جروحها أو يزيل الظلم الذي أصابها.

 

حرمت ليليان من رؤية ابنها الذي كان يبلغ يومه الأربعين وقت الكارثة ووفق ما تقوله شقيقتها نوال فرض عليها حجر صحي من قبل المحكمة الجعفرية لكن في الرابع من آب 2022 صدر حكم يعطيها الحق كما لعائلتها برؤية طفلها لكن الحكم لم ينفذ. وبعدها عقد صلح بين العائلتين وحظيت ليليان بفرحة رؤية وحيدها في الرابع من آب أيضاً وايضاً عل رؤيته تكسر مرارة ذلك التاريخ القاسي. ومن ثم فرحت به مرتين أخريين لتتوقف بعدها زيارات الصبي إليها وحتى الاتصالات المصورة عبر الفيديو. ولا تزال ليليان حتى اليوم تعيش هذا الفراغ العاطفي بعيداً عن طفلها، وفي المركز حيث تتابع علاجها تنساب دموعها كلما سمعت بكاء طفل، وتتعامل مع الأطفال الموجودين في المركز بحنان بالغ وكأنها تعوض بهم عن غياب وحيدها.

وأيضاً حياة لارا حايك وعائلتها الى تغيرت الأبد. أصيبت الشابة الجميلة وهي في غرفتها في منطقة الجعيتاوي سقط عليها «برطاش» الباب والنافذة وزحفت نحو الباب الخارجي لتطلب النجدة.على الفور انطفأت عينها وانكسر حنكها وأصيبت بنزيف دماغي. نقلت الى مستشفى الجامعة الأميركية لكن قلبها توقف في هذه الأثناء وريثما أعيد إسعافها وإحياء القلب كان الدماغ قد تأثر نتيجة عدم وصول الأوكسجين إليه.»هنا انتهت قصة لارا بحسب قول والدتها نجوى. 40 عاماً قضتها الصبية تجاهد لتقف على رجليها انتهت بلحظة».

 

 

شهران بقيت في المستشفى تخضع لعناية طبية وبدأ الأطباء يجرّعون والدتها الحقيقة المرة شيئاً فشيئاً. لا أمل يرجى من حالتها. ثقبت قصبتها الهوائية لتتنفس من جهاز عبرها وزودت بنربيش لإطعامها مباشرة في المعدة ونقلت الى مركز بحنس الطبي. رغم معرفتها بالحقيقة لم تستوعب والدتها الأمر وما زالت حتى اليوم تظنه فيلماً سيحمل نهاية سعيدة. لكنها تعرف في قرارة نفسها أن ابنتها رحلت الى عالم مواز.

حياة نجوى التي انقلبت راساً على عقب تسطرها أكثر من معاناة واحدة فكأن ما حدث لوحيدتها لا يكفي ليأتي معه عذاب من نوع آخر وهو تخلي الجميع عنها. «الإنسانية مفقودة تماماً، لا أحد سأل عنا من نواب او وزراء او إكليروس، لا مسؤولين طرقوا بابنا ليعرفوا قصتنا او ماذا حل بهذه المصابة بعد ثلاث سنوات. إهمال تام وضمير مفقود. هذا ما يحز في نفسي بقدر إصابة ابنتي. أنا في بيتي وبلدي لم يسأل علي أحد. اين الأمان والحماية والرعاية التي يجب أن تؤمنها لي دولتي. عمرك ما ترجعي هذا شعارهم». وحدها مؤسسة الإمام الصدر وقفت الى جانب العائلة مادياً وتكفلت بتكاليف العلاج الى جانب بعض المؤسسات ومن جهته بنك عودة الذي كانت لارا موظفة فيه أكمل تسديد راتبها حتى اليوم.

وكارمن الخوري صايغ خسرت في لحظة بصرها حين اصيبت في منزلها إصابة مباشرة تضرر معها العصب البصري في عينيها الاثنتين. تغيرت حالها وانتقلت من الضوء الى الظلمة لكنها ما انهارت ولا استسلمت أصرت على إكمال حياتها كما كانت قبل الانفجار المشؤوم، فما زالت تبحث عن علاج جديد وتتواصل مع مراكز أبحاث عالمية علها تجد اكتشافاً جديداً يعيد إليها ما فقدته. تتابع حياتها في بيتها بإصرار بطولي وبشكل شبه طبيعي، لا تقبل مساعدة من أحد حتى من أقرب الناس إليها وتصر على إنجاز الأمور التي كانت تنجزها سابقاً في بيتها وعلى الاهتمام بنفسها. في هذا تجد عزاء وقوة ولو فقدت اهتمامها لربما انهارت وخسرت مرتين وفق ما تقول شقيقتها لورا الخوري العضو في إحدى لجان أهالي الضحايا والجرحى.

 

 

لكن ما يحزّ في نفس كارمن ليس الإصابة الجسدية بل تداعياتها المعنوية فهي لم تر ابنتها عروساً، وقفت الى جانبها، ساندتها لكنها لم تستطع رؤية ثوبها ووجهها وتسريحتها وإن أحست بفرحتها. وحين أنجبت ابنتها طفلتها الأولى لم ترها بعينيها رأتها بقلبها. الى ذاكرة الأمس البعيد تعود كارمن لتكمل حياتها وربما لتنسى الأمس القريب الذي يحمل تاريخ 4 آب.


مصدر الخبر

للمزيد Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى