آخر الأخبارأخبار محلية

جريمة 4 آب يجب ألا تبقى مجرد ذكرى

عندما زرت بيروت قبل شهرين تقريبًا قصدت مرفأ بيروت، وجلست متأملًا ومتألمًا قبالة إهراءات القمح المشلّعة. حاولت أن استرجع في ذاكرتي بعضًا من مشاهد ذاك اليوم المشؤوم فلم أجد الا صورا سريعة لوجوه لم تعد موجودة، وإن وُجدت فمشوّهة. حاولت أن اتذكرّ مدى ذاك الرعب، الذي عاشه الذين كانوا على مقربة من هذا الانفجار، الذي هزّ العاصمة وضواحيها وزلزلها، فلم أجد في ذاكرتي سوى تلك الكلمات، التي قالها لي صديق قديم بعدما استكشف هول المأساة ومدى معاناة المصابين وحال الهلع في ذاك اليوم الرهيب، التي سيطرت على المكان المسكون بصمت الموت، الذي خطف في غفلة من الزمن الذين كانت تضجّ بهم الحياة، ولم يترك منهم سوى دموع الأمهات، وحسرة الأباء، ولوعة الأشقاء.  

مشهد لم يغب عن بال صديقي ولا عن بال الذين عاشوا تلك اللحظة الرهيبة، بما فيها من رهبة وخوف ورعب. فهذا المشهد الناتج عن ذاك الانفجار “الهيروشيمي” زلزل كل شيء ما عدا ضمائر بعض المسؤولين، الذين لا يزالون في سبات عميق منذ ثلاث سنوات، وقد تصّح فيهم أغنية السيدة فيروز: “ما في حدا لا تندهي… بابن مسكّر والعشب غطّى الدراج”.   وهذا ما لا يزال يرددّه البطريرك الماروني مار بشاره بطرس الراعي، مختصرًا المشهد السياسي المأزوم في لبنان في كل مرّة يتوجّه فيها في عظات كل أحد إلى أهل السلطة بالقول: “لا حياة لمن تنادي”. 

فأغنية فيروز وكلام الراعي يختصران مأساة وطن يعيش من دون رأس منذ ما يقارب الثمانية أشهر، ومن دون حسّ بالمسؤولية منذ زمن طويل، ومن دون الاستعداد لتحمّل ولو  جزء يسير من هذه المسؤولية، بل يكتفي بعض من ممن لا يرون سوى القشة في عيون الآخرين ويتغاضون عمّا في عيونهم من عمىً بإلقاء كامل المسؤولية على أكتاف لن ترزح تحت ثقل الأهوال. 

كان من المفروض بعد انفجار المرفأ، وما خلّفه من ضحايا وجرحى وإصابات وتدمير وتهجير وتشريد، أن يحسّ هؤلاء المسؤولون على دمهم، ويقدّموا مصلحة الوطن على مصالحهم الخاصة الضيقة جدّا، التي لا تتلاقى مع مصالح الناس. وهذا ما أثبتته التجارب في أكثر من محطّة. فلو كان هؤلاء حريصين على مصلحة الذين يدّعون أنهم يمثّلونهم في الندوة البرلمانية لما تأخرّوا، ولو لدقيقة واحدة، عن انتخاب رئيس للجمهورية.ولكن بعد تلكؤ بعض الذين يسمّون أنفسهم “حماة الدستور” عن القيام بواجبهم الوطني، بات أي كلام آخر عن منع القضاء اللبناني من القيام بواجبه وكشف حقيقة “جريمة العصر” كلامًا في غير مكانه الصحيح.   

ففي هذا اليوم التاريخي، الذي نستذكر فيه أرواح ضحايانا ونبكيهم دمًا ودموعًا، لم يعد من المسموح بعد اليوم أن يتلطى الذين ساهموا في شكل أو في آخر بهذه الجريمة البشعة وراء حصانات واهية. فالمجرم وحده هو الذي يخاف من العدالة، ووحده الذي يشعر بالذنب. يختبئ وراء حصانات واهية وغير ذي قيمة عندما ينفجر غضب الشعب، إن عاجلًا أو آجلًا، قبل أن يحاسبهم التاريخ، ولو آجلًا. 

لم يعد من المسموح بعد اليوم السكوت عن جريمة القرن، لم يعد مسموحًا أن نترك الذين قتلوا وجرحوا ودّمروا وشرّدوا وهجّروا ينامون في أسرّتهم المخملية، وإن لم ينجح الشعب المتعطش لصوت العدالة في تركهم يهنأون في عيشتهم بينما هو يرزح تحت كل أنواع الذّل والقهر. حاول أهالي الضحايا التحرّك، ولكنهم كانوا في كل مرّة يصابون بخيبات الأمل.  
المطلوب من الناس الساكتين عن الظلم أن يخلعوا عنهم تهمة “الشيطنة”. مطلوب ألا يسكتوا بعد اليوم قبل معرفة من أدخل مواد “النيترات أمونيوم” إلى العنبر رقم 12 في مرفأ بيروت، ولماذا إختير هذا العنبر بالذات، ومن كان يشرف عليه من غير الأجهزة الأمنية اللبنانية الشرعية، التي تتحمّل مسؤولية “قبة الباط”، لهذه الجهة التي كان من مصلحتها إدخال هذه الكمية من المتفجرات، والتي كان يُستفاد منها في أعمال حربية، سواء خارج لبنان أو داخله. 
المطلوب من هذا الشعب الصابر والعاضد على جرحه ألا يسكت بعد اليوم قبل أن يعرف الحقيقة كاملة من أولها إلى آخرها. 

فجريمة 4 آب يجب ألا تبقى مجرد ذكرى. 

 


مصدر الخبر

للمزيد Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى