كرسي رئاسي من قشّ
في دردشة مع أحد المغتربين المتقاعدين بعدما خدم في السلك الديبلوماسي ردحًا من الزمن قال لي: لم أرَ في حياتي كلها ونتيجة تنقلاتي الخدمية في أكثر من بلد، ومن بينها دول عربية، مسؤولين كالمسؤولين في بلادي. فالمسؤول في بلاد العالم يُحاسب عن كل هفوة يرتكبها. ومن يخطئ منهم يستقيل من تلقاء نفسه أو يُقال. وحدهم المسؤولون في لبنان لا تنطبق عليهم صفة المسؤولية. أفلسوا البلد وأوصلوه إلى الحضيض. ومع هذا لا يزالون يتربّعون على كراسيهم وكأن شيئًا لم يكن. عندما وُجهوا بشعار “كلن يعني كلن” ضحكوا في سرّهم وأخبروا بعضهم بعضًا، ولو لم يكن بينهم قواسم مشتركة، أن “الثوار” سرعان ما “سيزهقون”، وسرعان ما ينسحبون من الشارع، فتعود الأمور إلى “قواعدها سالمة”، ويبقى القديم على قدمه، وتنتهي “الثورة” من دون تحقيق أيٍ من أهدافها.
هؤلاء المسؤولون، كما يقول هذا “الديبلوماسي العتيق”، ماهرون في فنّ تضييع الوقت والفرص معًا، ويعرفون كيف ومن أين تؤكل الكتف، وهم خبراء في دفع الناس إلى القبول بما لا يُقبل. والدليل أن الانتخابات النيابية الأخيرة، والتي تطفئ بعد أيام شمعتها الأولى، أعادت انتاج الطبقة السياسية نفسها تقريبًا مع بعض الفوارق، التي لم تحدث الفارق الموعود.
هؤلاء السياسيون غير مستعجلين على أمرهم، ولا فرق بالنسبة إليهم إذا طال الفراغ، ولا يهمّهم كثيرًا إذا لم يصبح للجمهورية رئيس. هم باقون حيث هم. لا شيء يزحزحهم عن “مرابضهم”. هم لا “يأكلون” العصي، بل يبدو أنهم يتسّلون ويتلذّذون بعدّها. أيديهم ليست في النار. فالجمرة لا تحرق إلاّ مطرحها. ومطرح هذه الجمرة حيث الفقراء، وحيث الساعون إلى لقمة عيشهم بعرق الجبين وبكرامة.
سُرق من هؤلاء جنى العمر و”التحويشة” فعضّوا على الجرح، وصبروا مع الصابرين. هم يمشون في النهار وكأنهم يعيشون كابوسًا لا يعرفون ما إذا كانت له نهاية. يسيرون في الطرقات ويكّلمون أنفسهم وكأن الأمكنة التي يعيشون فيها قد أصبحت كلها “عصفورية”.
وعلى رغم كل هذه المآسي لا يزال الذين يهوون الاصطياد في المياه العكرة يمارسون هوياتهم السياسية، ويستخدمون الأساليب التخديرية إياها التي جُرّبت من قبل وأدّت إلى ما أدّت إليه من نتائج كارثية. ومن بين هذه الأساليب – الملهاة ما يُحكى عن سيناريوهات رئاسية تُطرح من حين إلى آخر من أجل المزيد من الرماد الذي يذرّ في عيون اللبنانيين، بعد الاتفاق السعودي ـ الإيراني، وعودة سوريا إلى الجامعة العربية، وذلك لكي تخفي القوى السياسية اللبنانية برمّتها عجزها عن فرض أجندتها والاستمرار في المناورة.
فالتطورات الحاصلة في المنطقة بدّلت المشهد السياسي المحلي، وتحديداً على الصعيد الرئاسي. فمتى يحين وقت التسوية لا يعود أحد من هذه القوى المحلية الضيقة الأفق قادرًا على التعطيل. وما حصل بالأمس في احدى السفارات العربية في بيروت لخير دليل على أن ارادة الخارج في المسألة الرئاسية تبقى أقوى من أي إرادة محلية اعتقد البعض أنه يمكن التعويل عليها في المرحلة السيادية اللاحقة ليتبيّن أن أغنية السيدة فيروز عن “قصقص ورق وساويهن ناس” قد أصبحت من يوميات المسترئسين المستعدّين للتنازل أكثر مما هو مطلوب منهم، وذلك من أجل ضمان وصولهم إلى كرسي رئاسي قد أصبح من قشّ، إن لم نقل أكثر من ذلك.
مصدر الخبر
للمزيد Facebook