الراعي : إعلموا أن الظلم لا يدوم وأنّ الظالم يبلى بأظلم
ترأس البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي قداس الاحد على مذبح كنيسة الباحة الخارجية للصرح البطريركي في بكركي
بعد الانجيل المقدس، القى الراعي عظة بعنوان “يا ابن داوود ارحمني” قال فيها: “إنّ طيما الأعمى منذ مولده، هو شحّاذ يجلس على قارعة الطريق، بل على هامش الحياة، يستعطي مالًا من المارّة. لـمّا سمع من الجمع أنّ الذي يمرّ وهم معه، هو “يسوع الناصري”، فما كان منه إلّا أن ناداه باسمه البيبليّ وبرسالته صارخًا: “يا ابن داود، إرحمني.
هذا دليل أنّ ذاك الأعمى كان المبصر الوحيد بين تلاميذ يسوع والجمع الكثير الذين كانوا ينتهرونه ليسكت. أمّا مناداته فوقعت في صميم قلب يسوع. فاستدعاه وسأله: “ماذا تريد أن أصنع لك؟” فأجابه من دون تردّد: “يامعلّمي أن أبصر!” . لم يطلب نقودًا، بل طلب بصرًا. فيسوع هو المسيح إبن داود الحامل رحمة الله إلى العالم، وشافي العميان بهبة البصر. هذا كان إيمان المبصر. في الواقع أجابه يسوع: “إذهب، إيمانك أحياك”. وللحال أبصر وانطلق في الطريق.نلتمس اليوم هبة الإيمان بالمسيح-النور بشخصه وكلامه وآياته، ونطلب الشفاء من عمى البصيرة في العقل والقلب والضمير.
وتابع: “يسعدنا أن نحتفل معًا بهذه الليتورجيا الإلهيّة في هذا الأحد الأخير من زمن الصوم، ونحن نستعدّ لإستقبال يسوع ملكنا الوحيد في أحد الشعانين، وللولوج معه في أسبوع آلامه المقدّسة لفداء خطايانا وخطايا البشريّة جمعاء، ولخلاص نفوسنا. وإذ أرحّب بكم جميعًا أوجّه تحيّة خاصّة إلى جمعيّة “جاد”-“JAD” وهي بالفرنسيّة: ـJeunesse Anti Drogue أي “شبيبة ضدّ المخدّرات”. وقد أسّسها المرحوم الأب بنوا سكّر من الرهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة سنة 1981.
فكانت أوّل جمعيّة عربيّة تعنى بمعالجة مؤثّرات المخدّرات على العقل والإرادة. نحيي رئيسها السيّد جوزف حوّاط ومعاونيه العاملين على الأراضي اللبنانيّة كافّة. لقد توسّع نشاط “جمعيّة جاد” حتى بات يشمل: أقسامًا رئيسيّة متنوّعة، ومتاحف تدريبيّة، ومركزًا للتدريب، ووسائل للتوعية والتدريب. إنّنا نقدّر عاليًا ما تقوم به هذه الجمعيّة حمايةً لشعبنا وبخاصّة لأطفالنا وشبابنا.
فمن سلامة الإنسان، سلامة العائلة والمجتمع والدولة. تنظّم جمعيّة JAD هذا القدّاس ككلّ سنة لمناسبة عيد الأمّ، تكريمًا لأمّهات شهداء الجيش والقوى الأمنيّة الذين استشهدوا أثناء القيام بواجب مطاردة تجّار المخدّرات، تجّار الموت.
رحم الله هؤلاء الشهداء الأبطال، وعزّى أمّهاتهم وعائلاتهم.
واضاف: “يامعلّمي أن أبصر!” . كان أعمى أريحا مبصرًا بإيمانه أنّ يسوع قادر على أن يشفيه من عمى عينيه المنطفئتين، لأنّه هو النور. هذا يعني أن الإيمان نور البصيرة الداخليّة، بصيرة العقل والقلب والضمير. من يفقد هذه البصيرة الداخليّة كان أعمى حقًّا. وما أكثر عميان هذا الدهر! عقلهم لا ينظر بالعينين الجسديّتين سوى منابع مصالحهم وشهواتهم وأنانيّاتهم. وقلبهم لا ينبض إلّا بالكبرياء والحقد والكراهيّة والعداء. وضميرهم لا يسمع سوى صوت التعدّي على شريعة الله ورسومه. كم نحن جميعًا بحاجة إلى فضيلة التواضع لنقرّ بعمى بصيرتنا الداخليّة، ونلتمس “البصر الحقيقي”. لقد وهب الله كلّ إنسان ثلاث فضائل: الإيمان لإنارة العقل بالحقيقة؛ والرجاء لثبات الإرادة في نور الحقيقة، وفعل الخير؛ والمحبّة لإمتلاء القلب بالمشاعر الإنسانيّة. فليفحص كلّ شخص ضميره بدقّة إذا ما كان مصابًا بالعمى على مستوى هذه الفضائل. يصاب بالعمى على مستوى الإيمان، عندما لا يحافظ عليه، ولا يغذّيه بكلام الله والصلاة وتعليم الكنيسة. فيعيش في الشكّ تجاه الحقائق الموحاة، أو في التردّد خوفًا من غموضها، أو في الجحود بإنكار الإيمان، أو في اتّباع البدع المنافية لتعليم الإنجيل والكنيسة، أو في الإنشقاق برفض الشركة مع الكنيسة. ويُصاب بالعمى على مستوى الرجاء، عندما يعيش في اليأس من عناية الله أمام مصاعب الحياة، أو في الإعتداد المفرط بالذات بحيث يتخلّى عن نعمة الأسرار، وعن وساطة الكنيسة والكهنوت، ويعتدّ أنّه ينال الخلاص مباشرة من الله. ويُصاب بالعمى على مستوى المحبّة، عندما يعيش في اللامبالاة تجاه الله وحاجات المعوزين وأصحاب الحقوق، أو في عدم عرفان الجميل لله على نعمه وبركاته، أو في الفتور في الصلاة والواجبات الدينيّة، أو في إمساك اليد عن مساعدة الفقراء والمحتاجين؛ أو في الحقد على الله بسبب وجود الشرّ في العالم. نعم ! كلنا مصاب بهذا العمى ونحن بحاجة الى نور المسيح. لا يقلّ خطورة عن هذا العمى الروحيّ العمى السياسيّ الذي تسبّب وما زال يتسبّب بانهيار لبنان المتصاعد إقتصاديًّا وماليًّا وإجتماعيًّا، حتى صُنّف في الموقع 136 قبل البلد الأخير في سوء العيش. لبنان “سويسرا الشرق”، هكذا اصبح اليوم. هذا العمى السياسيّ، النابع من الكبرياء والأنانيّة والمصالح الخانقة والأهداف الخبيثة، جعل الكتل النيابيّة ومن وراءها من النافذين يمعنون، من دون أيّ وخز ضمير، في عدم انتخاب رئيس للجمهوريّة، لكي لا تنتظم المؤسّسات الدستوريّة، وفي طليعتها المجلس النيابي الفاقد صلاحيّة التشريع والمساءلة والمحاسبة، والحكومة الفاقدة صلاحيّة عقد جلساتها لإتخاذ القرارات الإجرائيّة بموجب الدستور”.
وسأل: “لماذا؟ أيّها السادة، توجّهون مسؤوليّتكم الدستوريّة إلى خراب الدولة وحرمانها من الإصلاحات ومن مواردها؟ أتؤثرون العمى السياسيّ عمدًا، ولا تريدون أن تشفوا منه؟ ألأنّكم فعلًا تريدون خراب لبنان وقتل شعبه ماديًّا ومعنويًّا؟ فيا لسوء الزمان الذي أوصلكم إلى حيث أنتم من احتلال بكلّ معنى الكلمة للدولة ولمقاليدها! لكن إعلموا أن “الظلم لا يدوم”، وأنّ “الظالم يبلى بأظلم!” كما يعلّمنا التاريخ”.
وختم الراعي: “مهما اشتدّت ظلمة القهر والفقر والجوع والخراب، إنّ المسيح، “نور العالم” سيبدّد هذه الظلمة من دون إبطاء، كما يشاء وعندما يشاء. ولنبقَ نهتف مع الكنيسة: “تعالَ، أيّها الربّ يسوع!” . فأنت، كما وعدت: “آتٍ لتجعل كلّ شيء جديدًا” . لك التسبيح والشكر مع الاب والروح القدس الى ابد الابدين امين”.
وفي ختام القداس، وكعادتها كل عام كرمت جمعية “جاد” ولمناسبة عيد الام عددا من امهات شهداء الجيش والقوى الامنية الذين استشهدوا اثناء القيام بواجب مطاردة تجار المخدرات.
بعد ذلك، التقى الراعي المؤمنين المشاركين في الذبيحة الالهية.
مصدر الخبر
للمزيد Facebook