رسالة للراعي في الذكرى السنويّة الثانية عشرة لتوليته السدة البطريركية
“إلى إخواننا السادة المطارنة الأجلّاء، وقدس الرؤساء العامّين والرئيسات العامّات، وأبناء كنيستنا المارونيّة وبناتها،الكهنة والشمامسة والرهبان والراهبات الأعزّاء، وسائر المؤمنين والمؤمنات، في لبنان والنطاق البطريركيّ وبلدان الإنتشار الأحبّاء، السلام بالربّ يسوع مع أطيب الدعاء والبركة الرسوليّة.
1. الطوباويّون الإخوة العلمانيّون الشهداء فرنسيس وعبد المعطي وروفايل مسابكي الدمشقيّون، الّذين قدّموا في حياتهم شهادةً رائعة عن إيمانهم، ثمّ مهروها بشهادة الدمّ ليلة 9-10 تمّوز 1860 مفضّلين الموت على إنكار المسيح، يضفرون على جبين كنيستنا المارونيّة إكليل مجد جديد.
فقد تلطف قداسة البابا فرنسيس وقبل التماس إدراجهم بين القدّيسين، في المقابلة التي استقبل فيها نيافة الكردينال Marcello Semeraro، رئيس مجمع دعاوى القدّيسين صباح السبت 17 كانون الأوّل 2022.
2. كان قرار سينودس أساقفة كنيستنا المقدّس في جلسة السبت 18 حزيران 2022 أن يرفع السيد البطريرك باسم الأساقفة التماسًا إلى قداسة البابا فرنسيس لتسيهل وتسريع دعوى إعلان قداسة الطوباويّين الثلاثة مع ذكر المبرّرات وهي: “أنّهم علمانيّون، واثنان منهم متزوّجان وربّيا عائلتين؛ وإنّهم أوّل شرقيّين تمّ تطويبهم بحسب قوانين الكرسي الرسولي؛ وأنّ ذخائرهم مختلطة مع ذخائر الطوباويّين الشهداء الفرنسيسكان الثمانية الذين استشهدوا معهم في كنيسة ديرهم، وهذه علامة لوحدة الدمّ بين الشرق والغرب؛ وأخيرًا أنّهم من دمشق. وهذه بهجة لكنيستنا وأبرشيّاتنا في لبنان وسوريا والنطاق البطريركيّ وبلدان الإنتشار” (تقرير المطران غي بولس نجيم رئيس لجنة متابعة تقديم دعوى التقديس. كانت اللجنة مؤلّفة من السادة المطارنة: جي بولس نجيم وسمير نصّار وجوزف معوّض وبولس روحانا وسليم صفير).
في الواقع وجهت هذا الالتماس إلى قداسة البابا باسم سينودس أساقفة كنيستنا المقدّس بتاريخ 6 تمّوز 2022، بروتوكول 140/ 2022، بتوقيعنا وتوقيع سيادة أخينا المطران منير خيرالله أمين سرّ السينودس. لا تقتضي هذه الدعوى وجود أعجوبة مثبتة قانونًا وعلميًّا قد أجريت بتشفّعهم، بل يتمّ التركيز على سيرة حياتهم المسيحيّة المثاليّة، وعلى أهميّة إشعاع تقديسهم في أيّ مكان، وفي الظروف الحاضرة. فتسمّى لدى مجمع دعاوى القدّيسين “تقديس بالمقابل، Canonisazione equipollente”. (تقرير المطران سليم صفير المكلّف من قبل لجنة متابعة دعوى التقديس، للمراجعة لدى الدوائر الرومانيّة).
3. ثم كتب لنا الرئيس العام لرهبانيّة الفرنسيسكان Fra Massimo Fusarelli, ofm، بتاريخ 7 شباط 2023، يطلب منّا أن نكتب إلى قداسة البابا ملتمسين منه ضمّ الشهداء الفرنسيسكان الثمانية إلى قرار تقديس الطوباويّين الإخوة المسابكيّين، فوجّهنا الإلتماس إلى الأب الأقدس في 28 شباط 2023، وأعلمنا نيافة الكردينال Semeraro بذلك.
وهذه أسماء الشهداء الأحد عشر:
أ- الموارنة من دمشق:
1. فرنسيس مسابكي
2. عبد المعطي مسابكي
3. روفايل مسابكي
ب- من الفرنسيسكان اللاتين:
1. Manuel Ruiz Lopez
2. Carmelo Bolta Banuls
3. Engelbert Kolland
4. Nicanor Ascanio de Soria
5. Pedro Soler Méndez
6. Nicolas Maria Alberca Torres
7. Francisco Pinazo Penalver
8. Juan Jocobo Fernandez y Fernandez.
نشير إلى أن الطوباويّ Engelbert Kolland نمسويّ الجنسيّة، بينما السبعة الباقون فإسبانيّو الجنسيّة. ونشير إلى أنّ الستة الأول رهبان كهنة، والإثنين الأخيرين راهبان غير مرسومين.
4. تتضمّن هذه الرسالة العامّة أربعة فصول: الأوّل يتناول إشعاع سيرة الطوباويّين الإخوة المسابكيّين الثلاثة، الثاني استشهادهم، الثالث استشهاد مسيحيّي دمشق، الرابع تطويبهم والإستعداد للتقديس. أمّا المراحع التي استقيت منها فهي: كتاب السيّدة مريم صفير الدّاية: الإخوة الشهداء الطوباويّون، صربا 2008؛ كتاب الدكتور طوني ضو: شهادتنا وشهداؤنا … لبنان 2017؛ دراسة معمّقة لسيادة المطران سليم صفير: من درب صليب إلى درب صليب ظاهر في الشهداء والقدّيسين … (غير منشورة)؛ خلاصة من نصّ تطويب شهداء دمشق لسيادة المطران جي بولس نجيم (غير منشورة).
الفصل الأوّل،
إشعاع سيرتهم.
5. أساس استشاد الإخوة المسابكيّين هو إيمانهم المسيحي الملتزم، وشهادة حياتهم في محيطهم الدمشقي. فكانوا مدركين أنّهم مدعوّون لعيش مقتضيات معموديّتهم التي جعلتهم أعضاء حيّة في جسد المسيح السرّي الذي هو الكنيسة. فأنعشوا إيمانهم بالصلاة والمشاركة في القدّاس اليوميّ، وتناول جسد الربّ، والإستنارة بكلام الله، وعاشوا بحسب مشورة بولس الرسول، “حياة تليق بالقديسين” (أفسس 5: 3). وقد جمعوا تمامًا بين العناية بعائلاتهم والإهتمام بالشؤون الزمنيّة ومقتضيات حياتهم الروحيّة”. وهي قاعدة أعرب عنها آباء المجمع الفاتيكاني الثاني حول روحانيّة حياة المسيحيّين في العالم (القرار المجمعيّ في رسالة العلمانيّين، 4). إنّهم بذلك طابقوا حياتهم مع هتاف القدّيس لاون الكبير: “أيّها المسيحي، إعرف كرامتك!” (راجع البابا يوحنّا بولس الثاني: العلمانيّون المؤمنون بالمسيح، حاشية 48). وقد أدركوا الشرف المعطى لهم بالمعموديّة. ولبّوا في قرارة نفوسهم نداء القدّيس أغسطينوس: “لنفرح ونشكر، فقد صرنا ليس فقط مسيحيّين، بل المسيح بالذات. ليملأكم الذهول والفرح، فإنّنا صرنا مسحاء” (المرجع نفسه، حاشية 50).
6. عاش الإخوة المسابكيّون الدعوة إلى القداسة التي تعتبرها الكنيسة دعوة شاملة لإكليروسها ومؤمنيها. وقد خصّصت لها الفصل الخامس من الدستور العقائدي في لكنيسة “نور الأمم” الذّي أقرّه آباء المجمع المسكونيّ الفاتيكانيّ الثاني في تشرين الثاني 1964. ونقرأ: “الكنيسة مقدّسة لأنّ المسيح، إبن الله، مع الآب والروح القدس، وهو “القدّوس نفسه”، أحبّها كعروسته، ووهبها ذاته لكي يقدّسها (راجع أفسس 5: 25-26)، وضمّها إليه كجسده، وملأها بعطيّة الروح القدس لمجد الله. ولذا، الكلّ في الكنيسة، رعاة ومؤمنين، مدعوّن إلى القداسة. “فالله يريد تقديسنا” (راجع نور الأمم، الفصل الخامس، الفقرة 39).
7. هكذا أشعّت سيرة الإخوة المسابكيّين:
الطوباويّ فرنسيس،.
متزوّج من أليصابات شيحا، دمشقيّة، وأب لثمانية أولاد: ميخائيل وبطرس وأنطوان ومريم وجوريّة وكاترين وتريزيا وسوسان. حرص على تعليمهم وتثقيفهم وتربيتهم التربية المسيحيّة الأصيلة.
إمتلك محلًّا لتجارة الحرير في محلّة خان التُّتُن في دمشق. واكتسب بجدّه ونشاطه وحسن إدارته واستقامته، ثروةً وجاهًأ ونجاحًا، فكان موضع ثقة جميع من تعاطوا تجارة الحرير، ليس في دمشق وحسب، بل وفي سوريا ولبنان أيضًا؛ يشتري ويبيع بأمانة، ويسدّد المستحقّات بصدق ودقّة. ولذلك انتدبته البطريركيّة المارونيّة لبعض أمورها المدنيّة، وأمّنته عائلات الخازن والدحداح والبيطار وأبي اللمع وطوبيّا وغصوب وحبيب مراد واغناطيوس طعمه وغيرهم، على تيسير أعمالها وتصريف منتوجانها، فكان إذا جال في لبنان، يُرحبّ به عارفوه. بل إنّ مكانته كانت كبيرة لدى الحكّام وسائر المسلمين.
عُرف بالجود والسخاء وغوث الفقراء والمحتاجين والغيرة على بيوت الله، فساهم في ترميم كنيسة دمشق وتجديدها، ثمّ شراء البيت المجاور لها. وفتح أبوابه لكلّ زائر وسائح وقريب أو بعيد، فكان بيته مقصدًا ومضافة لهم.
رغم ما حظي به فرنسيس من ثراء ومقام، فلم يتلكّأ يومًا عن واجبه الديني. يقول فيه إبن أخيه عبد المعطي: “كان في مدّة حياته عائشًا بمخافة الله وتقيًّا جدًّا. كرّم العذراء، الأمّ الحزينة، التي استُشهد على مذبحها، بالسلام الملائكيّ، يحيّيها به كلّ يوم، في “عبادتي” الورديّة وثوب سيّدة الكرمل.
لقد ظلّ في كبره كما في صغره، يبكّر إلى مناجاة ربّه متأمّلًا مصليًّا، ثمّ يذهب إلى الكنيسة ليشارك في الذبيحة الإلهيّة. ومساءً، ومع عائلته وعائلة أخيه عبد المعطي، الذي عاش في كنفه، يردّدون صلاة الشكر والسبحة، ويحيون رياضة تكريم مار يوسف والعذراء ومريم، ويقرأون فصولًا من الكتب الروحيّة غذاءً للنفس وقوّةً للإيمان. كما أنّه كان يقفل محلّ تجارته قبل موعد الإقفال ليشارك مع عائلته في زيّاح درب الصليب.
8. الطوباوي عبد المعطي
عاش وزوجته بنت السكران، وأولاده الخمسة: نعمه ويوسف ومريم وورده وحنّه، في بيت أخيه فرنسيس. وقد اعتنى بتعليمهم وتربيتهم، ولبست الصغرى حنّه ثوب الرهبانيّة لدى راهبات المحبّة باسم الأخت إفرازيا، فعاشت وماتت على حبّ الله والسيدة العذراء.
قضى معظم حياته يعلّم في مدرسة دير الرهبان الفرنسيسكان. وفي تعليمه، كان كثيرَ العناية بشرح مبادئ الدين المسيحيّ، حاثًّا على حبّ الله وتجنّب أسباب الخطيئة.
ولمّا تعب من التدريس، لتقدّمه في العمر، فتح له أخوه فرنسيس حانوتًا نَقص رأسماله بدل أن يزيد، لتسامح عبد المعطي في الكيل والسعر خوفًا على راحة الذمّة، ما استوجب إقفاله.
يقول ابنه نعمه: كان والدي بعد تلاوة صلاته اليوميّة، كلّ صباح، يذهب إلى كنيسة الفرنسيسكان، ويحضر جميع ما يقام فيها من القداديس، وهو جاثٍ على ركبتيه. وكلّ ثمانية أيّام، يتقدّم إلى مناولة الأسرار الإلهيّة، كما في أيّام الأعياد. ويوم خميس الأسرار مساء، يذهب إلى الكنيسة ويجثو على ركبتيه نصبًا إلى صباح يوم الجمعة الحزينة، ويبقى في الدير إلى ليل الأحد عند منتصف الليل، فيمضي إلى كنيسة الموارنة لأجل حضور القدّاس والمناولة الفصحيّة، ومن بعد ذلك يحضر إلى البيت. وهكذا فعل طيلة مدّة حياته.
وروى عنه أحد تلاميذه، جورج بيطار، أنّه كان يركع في القداديس دائمًا نصبًا على ركبتيه، حتى أصبحتا كركاب الجمال، على حدّ قول أحد الشهود.
ونُقل أنّه كان يبكّر مع ابنته حنّه إلى كنيسة الفرنسيسكان، كلّ صباح حين يُقرع جرس التبشير، حتى في أيّام الشتاء الممطرة والمثلجة، فتظهر آثار أقدامهما على الثلج، ويقال: مرّ من هنا معطي وابنته.
ومن تلاميذه من أخبر أنّه كان يردّد، أثناء شرح التعليم المسيحيّ، أن على المسيحيّ أن يكون مستعدًّا دائمًا لسفك دمه حبًّا بالمسيح، وأنّ أجلّ نعمة ينالها هي نعمة الإستشهاد. وأضاف أنّه كان يزور القربان المقدّس كلّ يوم بخشوع، ويصوم الأصوام المفروضة كلّها، ويصوم السبوت دائمًا، وينقطع عن الزيت يومي الأربعاء والجمعة، ويعتني بتعليم الأولاد على تمثيل رتبة أعجوبة لعازر من القبر.
9. الطوباوي روفائيل
قضى حياته عازبًا يساعد جماعة دير الآباء الفرنسيسكان وأحيانًا أهل بيته. يثابر على الصلاة ومحبّة العذراء. يلازم كنيسة دير الفرنسيسكان طويلًا في النهار ويشارك عائلتي فرنسيس وعبد المعطي الصلاة البيتيّة في المساء.
الفصل الثاني
استشهادهم
10. كان استشهاد الطوباويّين الإخوة المسابكيّين الثلاثة على يد السلطة العثمانيّة في دمشق في ليلة 9و10 تمّوز 1860، فسمّيا “يومي الدمّ”. فبسبب زيادة الإضطرابات في دمشق، وأمام الهجوم الذي تعرّض له المسيحيّون (لاتين وروم وكاثوليك وموارنة) من المتطرّفين الذين أرادوا قتلهم، إلتجأ عدد منهم إلى دير الفرنسيسكان في حيّ باب توما، ليحتموا به. وعند الثامنة ليلًا من يوم الإثنين 9 تمّوز 1860، إنضمّ فرنسيس وأخواه روفائيل وعبد المعطي إلى الدير القريب من منزلهم. وعند الحادية عشرة ليلًا، أُقفلت أبواب الدير ودخل الجميع إلى الكنيسة واعترفوا بخطاياهم، وتناولوا القربان المقدّس مُصلّين في قلوبهم مزمور “الربّ نوري وخلاصي فممّن أخاف؟ الربّ حصن حياتي فمّمن أفزع؟ إذا اصطفّ عليّ عسكرٌ فلا يخاف قلبي، وإن قام عليّ قتال ففي ذلك ثقتي…”. وعند الأولى من فجر الثلاثاء العاشر من تموّز تسلّل المعتدون إلى داخل الدير، ودخلوا على المجتمعين في الكنيسة عنوةً، مدجّجين بالسلاح وقتلوا ثمانية رهبان فرنسيسكان وهم: الطوابيّون الثمانية، مع ثلاثة من العلمانيّين العاملين في الدير.
ثمّ أخذ المسلّحون بالصراخ سائلين: “أين فرنسيس مسابكي؟” وكان جاثيًا يصلّي أمام تمثال العذراء مريم فدنا فرنسيس منهم غير هيّاب، قائلًا لهم: “أنا فرنسيس مسابكي ماذا تطلبون؟” فأجابوه: “أرسلنا الوالي لنخلّصك أنت وإخوتك وعيالك وكلّ من يلوذ بك، وخيّرك بردّ مالك، شرط أن تنكروا إيمانكم وتعتنقوا الإسلام، وإلّا فإنّكم تهلكون جميعكم.” وجاء هذا العرض من الوالي لكونه كان قد استلف مبلغًا كبيرًا من المال من فرنسيس.
لكنّه أجابهم: “يستطيع الوالي أخذ مالي، أمّا إيماني فلا يقدر أحد أن ينزعه منّي … إنّنا لا نخاف مّمن يقتل الجسد … إنّنا مسيحيّيون وعلى دين المسيح نموت. إنّنا نحن معشر المسيحيّين لا نخاف الذين يقتلون الجسد كما قال الربّ يسوع. “ليس لنا إلا نفس واحدة ولن نفقدها، “ثمّ إلتفت إلى أخويه وقال لهما: “تشجّعا واثبتا في الإيمان، لأنّ إكليل الظفر معدّ في السماء لمن يثبت إلى المنتهى”.
فأعلنا، فورًا، إيمانهما بالربّ يسوع بهذه الكلمات: “إنّنا مسيحيّون ونريد أن نحيا ونموت مسيحيّين”. وعاد إلى صلاته. فانهال المهاجمون، إذ ذاك عليهم، بالضرب بعصيّهم وخناجرهم وفؤوسهم، أمام المذبح فأسلموا أرواحهم الطاهرة بيد الله، مؤثرين الموت على الكفر فنالوا إكليل الشهادة. وكان ذلك فجر اليوم العاشر من تمّوز من سنة 1860.
11. تعدّ المذابح التي وقعت في عام 1860 من أفظع المذابح الطائفيّة في تاريخ الدولة العثمانيّة (قبل مذابح الأرمن والسريان)، ولا يزال الكثيرون من أهل الشام وجبل لبنان يذكرونها بألم، وكانت السبب في هجرتهم إلى الأمريكيّتين وأفريقيا وغيرها من أنحاء العالم. ويضيف عالم الإجتماع السوريّ: “بدأت مذابح الستين في لبنان في شهر نيسان، وفي خلال أسابيع قليلة كان أكثر من ستين قرية مسيحيّة في منطقتي الشوف والمتن قد تحوّلت إلى رماد، وفي حاصبيا كانت التعليمات تقضي بأن لا يبقى حيًّا أيّ ذكر مسيحيّ بين سن السابعة وسنّ السبعين، واتسع نطاق الكارثة حتى وصل إلى زحلة، فلم يسلم فيها بيت من الحريق إلّا نادرًا، واستمرّت الكارثة ثلاثة أشهر سقط فيها من القتلى إثنا عشر ألفا وقدرت الخسائر في الممتلكات بأربع ملايين باون.
الفصل الثالث
استشهاد مسيحيّي دمشق
12. في تمّوز 1860 انتقلت الشرارة إلى دمشق، وهنا اتخذت الكارثة وجهًا آخر، حيث سيطر الغوغاء على المدينة وصاروا يقتلون ويدمّرون بلذة عارمة لا تقف عند حدّ. يقول المؤرّخ الشامي محمد كرد علي في وصف المذبحة ما نصّه: “وأهمّ ما وقع في هذا القرن حادثة النصارى المعروفة بحادثة الستين 1860 وخلاصتها قيام بعض رعاع المسلمين والدروز على نصارى دمشق وقتلهم ونهبهم وإلقاء النار خمسة أيّام على حيّهم حتى خرب كلّه … يكاد المؤرّخون يجمعون على أنّ الدولة العثمانيّة هي التي دفعت الرعاع أو غضّت الطرف عنهم فارتكبوا ما ارتكبوا…
وعن رواية ميخائيل مشاقة لخّص الباحث نسيب نمر الهجوم على المسيحيّين في دمشق: “بينما كان النصارى منهمكين في أشغالهم وأعمالهم في جوار المدينة ثار عليهم أنصار الدولة من بعض المسلمين، وسدّوا أمامهم الطرقات. فدبّ الخوف والرّعب، والكثيرون منهم جاؤوا من أمكنة بعيدة، فتعذّر عليهم الرجوع إلى منازلهم وأمكنة إقامتهم. فاضطرّوا للبقاء تحت الخطر المحدق بهم. أمّا نصارى المدينة فلو تمكّنوا من الخروج والفرار، لما تردّدوا لحظة واحدة، وإنّما آثروا البقاء على المغادرة والفرار، لعلمهم أنّهم سيُلاقون حتفهم في الطرق… ولمّا بلغت الحال إلى هذه الدرحة من التفاقم والحراجة، اجتمع قناصل الدول بدمشق واعترضوا على الوالي لعدم اكتراثه لِما يجري أمامه وعلى مسامعه من الحركة والقلاقل “… وحين وردت أخبار مذبحة زحلة 4 تمّوز 1860″ أمر أحمد باشا بإقامة الأفراح وتنوير الشوارع احتفالًا بفتوح زحلة” وكثيرًا ما كان يقول: “اللهم أهلك الكافرين”..
13. في كتابه “لبنان في التاريخ”: تطرّق د. حتّي إلى امتداد المذابح إلى دمشق، مستندًا إلى سيريل غراهام ومشاقة وغيرهما، ورأى أنّ ما “شجّع أهل دمشق على الثورة ضد المسيحيّين عدم معاقبة المجرمين في لبنان وتواطؤ الموظفين الأتراك معهم. فأحرق أهل دمشق الحيّ المسيحيّ، وقتلوا أكثر من عشرة آلاف نسمة. فكان مجموع الضحايا في العاصمة السوريّة أحد عشر ألف شهيدًا.
14. وتقول دراسات أخرى إنّ المهاجمين قاربوا الخمسين ألفًا، جاؤوا من أماكن بعيدة وهجموا بغزارة على الحيّ المسيحيّ. وقدر عدد الغزاة بين 20،000 و 50،000. وخلال ساعات قليلة، غصّ الحيّ المسيحيّ بالمعتدين مما أعطى الدليل بأن الفتنة لم تكن عفويّة بل مدبّرة، وأنّ الجميع كانوا جاهزين. ويكرّر د. حتي عن ميخائيل مشاقة قوله: “لم يكن العداء للمسيحيّين هو الدافع الوحيد، بل كان هناك من يسعى لنهب غنيمة فقط، على قاعدة “الغُنم من الغزوات”، حيث كان الجميع يعرف بغنى هذا الحيّ وفخامة محتوياته وخاصة كنائسه وأديرته. لذلك انضمّ الكثير من قطاع الطرق والبدو، وحتى النساء والأولاد شاركوا في الهجوم. وما هي إلا ساعات حتى بدأ جنود الحرس الموكل بحماية الحيّ المسيحيّ بالإنضمام إلى المهاجمين والإستيلاء على الغنائم المسلوبة. وبعد فترة انضمّ إليهم جنود من فرق أخرى. وغاب كلّ الضباط عن المشهد المشحون بالنهم البربريّ. ولم يبقَ أحد ليردّ المهاجمين عن هؤلاء المساكين أهل الحيّ المسيحيّ في قلب عاصمة الأمويّين. وألسوأ من هذا كلّه هو أنّ جميع السياسيّين والعلماء وأعضاء المجالس الحاكمين إختفوا من الساحة، ولم يحاول أحدهم إيقاف الهجوم.
15. كانت حصيلة استشهاد مسيحيّي دمشق بحسب شاهد العيان الأرشمندريت إغناطيوس ديك أنّ استمرّت الحرائق لأسبوعين. فقتل في المذبحة ما يقارب 11،000 وبعضهم قضوا بسبب الحرائق. واغتصبت أكثر من 400 إمرأة، ونهبت كلّ البيوت والمحلّات والكنائس والأديرة والمدارس والبعثات التبشيريّة وأحرقت جميعها. وتحوّل حوالي 1،500-3،000 بيت و 200 محلّ إلى ركام. وسَلِم حوالي 200-300 بيت من الحريق لأنّ هذه البيوت كانت قريبة من بيوت المسلمين، لكنّها لم تسلم من النهب. ودُمِرت 11 كنيسة و3 أديرة. وقتل حوالي 30 كاهنًا ومن بينهم “الخوري يوسف الحدّاد الدمشقي القديس” في الكنيسة المريميّة الأورثوذكسية و 10 مبشرين. أعلنت كنيسة الروم الأرثوذكس قداسته وتعيّد له مع الطوباويّين المسابكيّين في 10 تمّوز، لأنّه استشهد في ذات اليوم أمام كنيسته المريميّة.
16. في خضمّ استشهاد المسيحيّين في دمشق، سُطّرت صفحة إسلاميّة إنسانيّة، فقد حاول كثير من وجهاء دمشق، أمثال الأمير الجزائري وأسعد أفندي حمزة، والشيخ سليم العطّار، وصالح آغا الشوربجي، وسعيد آغا النّوري، وعمر آغا العابد، حماية المسيحيّين. لكنّ بعضًا منهم خارت قواه تجاه بطش الغوغاء فسلّم لهم من في حوزته من النصارى، فذبحهم الغوغاء ذبح النعاج”. أمّا الأمير عبد القادر الجزائري فحمى أكثر من ألف مسيحي من القتل. ووحده بادر إلى التفاوض مع سلطات المدينة وشيوخها وعلمائها، محاولًا إقناعهم أنّ ما يفعلونه هو ضدّ الإسلام، لكنّهم لم يستمعوا إليه ومنعوه من أن يقاتل المتمرّدين. فاقتصرت مهمّته ومهمّة شرفاء دمشق من المسلمين على مدّ يد المساعدة للمسيحيّين، وإنقاذ ما أمكن منهم. فهو مع رجاله نجّى رهبان دير فرنسي أُحرق، وكذلك أُحرقت القنصليّات الروسيّة والهولّنديّة والبلجيكيّة والأميركيّة واليونانيّة وكلّ البعثات الإنجيليّة الأوروبيّة. فوجد موظّفوها ملجأً هم أيضًا في منزل الأمير عبد القادر. وقد نجا جميع القناصل ما عدا الأميركيّ والهولنديّ. غير أنّ قنصليّة بروسيا والذين لجأوا إليها لم يُصابوا بأيّ أذى. كما نجا أيضًا من المجزرة من كان حينها في الأحياء المحفوظة للمسلمسن الأتقياء، أو خبّأه مسلمٌ ورعٌ، أو استطاع أن يصل إلى قلعة دمشق التي كانت بحماية عسكر هاشم آغا الذي عارض ما كان يجري.
17. وُلد الأمير عبد القادر الجزائري في الجزائر سنة 1808، وربّاه والداه على التقوى ومخافة الله، بحسب المدرسة الصوفيّة القادريّة. إنكبّ باكرًا على دراسة الفلسفة والقرآن الكريم. ولم يستطع عنفوانه القبول بالإستعمار. إذ كان بعد في الرابعة والعشرين من عنره، أطلق ضدّه حرب عصابات، كان قد جنّد لها حوالي 40،000 رجلًا. احترم الأخصام فيها أصول القتال الأخلاقيّة: أي المعاملة الحسنة للمساجين، وإحترام الإتفاقيّات المعقودة، والسعي الصادق لإيجاد حلول عادلة للصراع. ولكن، إبتداءً من سنة 1841، لجأ بعض المسؤولين الفرنسيّين إلى أساليب أخرى منافية لهذه الأصول. سجنه الفرنسيّون مع عائلته وآخرين من حاشيته طيلة خمس سنوات. وسنة 1852 أصبح فجأةً السجين الجزائريّ، شخصيّةً بارزة في المجتمع الأوروبيّ بفضل الإمبراطور نابوليون الثالث الذي أمر بتخليته، متأثرًا بالعرائض الكثيرة التي كانت ترده من فرنسيّين وإنكليز استاؤوا من ظلم المعاملة التي أُخضِع لها الأمير. وسوف يساهم هذا بأنّه لن يغضب الأمير عبد القادر على فرنسا. بل على العكس، فقد تمتّنت قناعته في أنّه يوجد دائمًا وأينما كان أناسٌ ذوو أخلاقٍ رفيعة، وسيبني لنفسه صداقات متينة وحقيقيّة في كلّ أنحاء أوروبّا. وحطّ أخيرًا رحاله في دمشق بموجب اتّفاق فرنسيّ-عثمانيّ. وسوف يُعتبر بمثابة رمزٍ لمن يقف في وجه الطغاة، ويدافع بحزم عن حقوق النّاس، نظرًا لمواقفه الجريئة طيلة حياته، بما فيها مواقفه الشريفة في مأساة 1860 في دمشق.
الفصل الرابع
تطويبهم والإستعداد للتقديس
18. يعود الفضل في تقديم دعوى تطويب الإخوة المسابكيّين الثلاثة إلى مطران دمشق آنذاك بشارة الشمالي الذي كان أوّل من كتب سيرتهم في كتابين: “الإخوة الشهداء الثلاثة” (بيروت 1926)، و “يوم الشهداء” وهو مجموعة قراءات ومدائح وصلوات بعيد الشهداء الثلاثة (حريصا 1927). وكانت أبرشيّة دمشق تضمّ نيابة صربا البطريركيّة اليوم وجزاءًا من أبرشيّة زحله.
ففي 4 أيّار 1926 قدّم المطران بشارة الشمالي عريضة إلى البابا بيوس الحادي عشر ملتمسًا أنّ يحقّق الكرسيّ الرسولي في إثبات استشهاد الإخوة المسابكيّين الثلاثة أسوة برفاقهم الآباء والرهبان الفرنسيسكان، وأن يضمّ دعوى تطويبهم إلى دعوى هؤلاء. وقد فعل ذلك بالإتفاق مع البطريرك الياس الحويك ومجمع المطارنة والقاصد الرسولي في سوريا Ferdinando Giannini. فأتى الجواب في 16 تمّوز عبر القصادة الرسوليّة.
وفي 10 آب تلقى المطران بشارة الشمالي من المونسنيور Salotti أنّ قداسة البابا عيّنه محقّقًا في دعوى استشهاد الإخوة المسابكيّين وتطويبهم مع الرهبان الفرنسيسكان. وبالفعل حضر إلى لبنان مع اللجنة المكلّفة في شهر أيلول وأجرى التحقيق اللازم.
19. وفي 7 تشرين الأوّل 1926، افتتح البابا بيّوس الحادي عشر براءة تطويب الشهداء الإخوة الثلاثة المسابكيّين بالقول: “إنّه لَمن حُسن الطالع أن ينال شرف التطويب الإحتفاليّ، في هذه السنة وفي الأيّام المخصّصة في المسكونة بأسرها لتكريم التذكار المئويّ السابع لوفاة القدّيس فرنسيس الأسّيزين، ثمانيةٌ من أبنائه المجيدين، الذين سفكوا دماءهم في عصرنا هذا شهادةً لإيمان المسيح. فهؤلاء الأبطال الذين لم يُقهروا، وقد قتلهم بغضًا بالدّين، “زمرة من الأتراك القساة، وذلك سنة 1860، في ديرهم في دمشق، المرتبط برُبُط روحيّة بمحافظة الأراضي المقدّسة، فنالوا إكليل الشهادة المجيد في عينيّ الربّ. على أنّه لم يُعطَ أبناء القدّيس فرنسيس الثمانية وحدَهم أن يَسفكوا دماءهم في ذلك اليوم حبًّا بالمسيح، بل إنّ سخط الأتراك صُبّ أيضًا على الأشقّاء الثلاثة: فرنسيس وعبد المعطي وروفائيل مسابكي، أبناء الكنيسة المارونيّة. فهؤلاء لم يريدوا أن يتركوا الآباء الفرنسيسكان وحدهم في تلك الشدّة، فأسرعوا إلى الدير لدى سماعهم الضوضاء، وهناك اقتاتوا بالخبز السماويّ، وباتوا يصلّون مع الرهبان أمام المذبح غير مبالين بأولادهم وعيالهم، منتظرين الموت برباطة جأش. أمسكهم الغاشمون المتدفّقون على الدير كالسيل، فأعلنوا أنّهم مسيحيّون، وأنّهم مستعدّون للموت لأجل إيمانهم بالمسيح. وللحال أمام درجات المذبح الكبير، في كنيسة دير الرهبان الفرنسيسكان، قُتلوا بضربات بلطة حديديّة”.
20. يوم الأحد 10 تشرين الأوّل 1926، كان احتفال التطويب-فرُفعت على المذبح الكبير في كاتدرائيّة القدّيس بطرس، ذخائر الشهداء الفرنسيسكان والمسابكيّين؛ ودُلّي على عَمودَي القبّة الكبرى صورتان: واحدة لحادثة الإستشهاد، والثانية للشهداء أمام مذبح كنيسة دير الفرنسيسكان في دمشق يتناولون جسد الربّ من يد رئيس الدير؛ ونُصبت صورةٌ كبيرة فوق الباب الكبير، وعليها استشهاد كلّ واحد من الطوباويّين؛ واعتلى الواجهة الخارجيّة صورة أخرى للشهداء في حالة المجد، والملائكة من حولهم ينثرون الورود على الأرض.
ترأس المطران بشارة الشمالي الوفد المارونيّ المؤلّف من الرؤساء العامّين، وبعضٍ من الكهنة ومن بينهم البرديوط ابراهيم مسابكي النائب الأسقفيّ في دمشق ونسيب الشهداء.
وبعد يومين أي في 12 تشرين الأوّل، قال البابا للموارنة في لقاء خاصّ: “إنّ قلبنا يطفح سرورًا باجتماعنا بأبنائنا الموارنة الأعزّاء. ولا شكّ أنّ قلوبكم تتهلّل حبورًا سويّة مع قلبنا، وتنتعش متعزّيةً، إذ ترى جبين بعض الأبطال الممثّلين جهاد طائفتكم المستطيل يتكلّل بإكليل المجد. إنّ مِثال هؤلاء الإخوة الثلاثة، شركاء العذاب والمجد، لهو من أكبر العوامل المثيرة للشجاعة في قلوبكم، أنتم خصوصًا، يا خدّام الأقداس. ومنهم أخذنا كلُّنا أمثولة كبيرةً، هي أمثولة التضحية في سبيل الحقّ والإيمان. غير أنّه توجد تضحياتٌ أخرى، علينا كلّنا أن نحتملها ونقاسيها، كلّ يوم، قيامًا بالواجب. فمن دون تضحية لا يمكن إتمام الواجب. ذلك هو حَملُ الصليب الذي أمر به المخلّص كلّ من يتبعه”. وانتهى إلى القول: “تلك هي الأمثولة التي سيتبعها شعبكم وطائفتكم جمعاء”.
وفي المناسبة وجّه البطريرك الياس الحويك رسالةٌ إلى أبنائه الموارنة، نوّه فيها بتألّق الإخوة الشهداء بين حسن القيام بالواجبات الدينيّة والإجتهاد في تحصيل المال وإنماء التجارة، إلى أن اقتضت التضحية تفضيل ثروة السماء على خيرات الأرض؛ فكانوا مِثالًا لإمكان التوفيق بين الدين والدنيا. ولم ينسوا، وهم وَسطَ العالم، أنّهم خلقوا لغاية أسمى وأشرف.
21. أمّا ذخائر الشهداء، المحفوظة تحت المذبح الكبير في كاتدرائيّة الأبرشيّة بدمشق فتضمّ ذخائر الإخوة المسابكيّين الثلاثة والرهبان الفرنسيسكان الثمانية الذين استشهدوا معًا ودفنوا في ثلاثة أمكنة، وتمّ انتشال رفاتهم في تشرين الأوّل 1861. ووُضعوا في صندوقين تسلّم أحدهما مطران الأبرشيّة بشارة الشمالي، وأمر بتكريمهم ليتوجيًّا باستعمال الصلوات والترانيم التي نشرها.
22. والآن نحن مدعوّون لمواصلة هذا التكريم استعدادًا لإحتفال التقديس. وقد كلّفنا سيادة أخينا المطران يوحنّا-رفيق الورشا، معتمدنا البطريركيّ لدى الكرسيّ الرسوليّ، متابعة هذا الأمر مع مجمع دعاوى القدّيسين.
وكان سينودس أساقفتنا المقدّس قد أوصى، في دورة حزيران 2022، السادة المطارنة بأن يعملوا على نشر تكريم الطوباويّين الإخوة المسابكيّين الثلاثة في أبرشيّاتهم. وإنّا نكلّف اللجنة، التي أنشأها السينودس “لتسريع دعوى إعلان قداستهم”، بتنظيم نشر هذا التكريم، وتنسيقه مع مطارنة الأبرشيّات. واللجنة مؤلّفة من السادة المطارنة: جي-بولس نجيم رئيسًا، وسمير نصّار، وجوزف معوّض، وبولس روحانا، وسليم صفير.
الخاتمة
23. أدّى الإخوة المسابكيّون شهادة الإيمان بسيرتهم المسيحيّة المثاليّة في العالم، مروحنين حياتهم الزمنيّة بالصلاة والصوم والتجرّد وتقبّل الأسرار، ما جعلهم مستعدّين لأداء شهادة الدمّ، دونما خوف أو تردّد. ففضّلوا الموت على إنكار إيمانهم المسيحيّ، وليس في نفوسهم أيّ حقد أو ضغينة لقاتليهم، بل صلاة من أجلهم. وقد خطرت في بالهم، ومن دون أيّ شكّ، صلاة يسوع من أعلى الصليب: “يا أبتِ، إغفر لهم لأنّهم لا يدرون ما يفعلون!” (لو 23: 24).
24. المغفرة عندنا نحن المسيحيّين من جوهر ثقافتنا الإنجيليّة وحضارة تاريخنا الطويل. إنّها ثقافة الغفران من القلب يعلّمنا إيّاها الربّ يسوع: “أحبّوا أعداءكم، وباركوا لاعنيكم، وأحسنوا إلى مبغضيكم، وصلّوا على مغتصبيكم ومضطهديكم، فتكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات”(متى 5: 44-45).
هذا أساس ما نسمّيه “بتنقية الذاكرة”. نستذكر التاريخ لنواصل الشهادة، ونجدّد الرسالة، ونصلح ما يلزم في حياتنا.
25. لقد شكّلت مأساة تمّوز سنة 1860 في دمشق مسكونيّة شهادة الدمّ، ذلك أنّ في أثنائها، ولأوّل مرّة في التاريخ، كاثوليك وأرثوذكس وبروتستانت من الشرق والغرب، شهدوا سويًّا للمسيح، كجسد واحد، ببذل حياتهم. فغدا العاشر من تمّوز، يومًا يجمع الكنائس الكاثوليكيّة والأورثوذكسيّة، للإحتفال بحدث واحد مقدّس، يلتقي فيه كلّ الأشخاص الصادقين، متأمّلين في وحدة الشهادة للمسيح، على رجاء أن يستنير عقل الذين غلبهم ضلال الحقد والعطش إلى التسلّط، فيسود العالم التفاهم والأمان وبنوع خاص في كلّ أرض متألّمة، باستحقاقات المسيح الإله ووالدته العذراء مريم الكليّة القداسة سلطانة الشهداء، وجمع الشهداء المعظّمين وسائر الآباء القدّيسين الممجّدين.
صلاة
26. يا شهيد الجلجلة العظيم، يا من أعطيتنا بمثالك ومن على صليبك المشعّ بالحياة مثال التضحية الحقيقيّة، وشئت في كلّ عصر ومكان أن تعطينا أمثلة حيّة لهذه التضحية بشخص أصفيائك ومختاريك. أعطنا الآن، بحسب مشيئتك القُدّوسة، بشفاعة شهدائك الطوباوِيّين الإخوة المسابكيّين الثلاثة الذين سفكوا دِماءهم حبًّا بكَ، وبشفاعة أمّنا العذراء مريم والدتك الكليّة القداسة، متوسّلين إليك بأن تجعل لنا، في شرقنا الموجوع هذا، الذي تقدّس بسرّ موتك المحيي وقيامتك المجيدة، أمثلةً جديدة للجماعة المسيحيّة على غرار هؤلاء الشهداء الأبرار، الذين مضوا كجماعة في تتميم مشيئتك القدّوسة حتى الإستشهاد. فيتمجّد بذلك اسمك، وتنتصر كنيستك، ويشفى الإيمان ويتوطّد، ويعود إلى هذا الشرق سلامك، فيلمع بمحبّتك ويتألّق بتعاليمك وببراءة قدّيسيه العظام، كما لمع في الماضي باستحقاقات دمك المُهرَق فيه، حبًّا بالبشريّة كلّها، يا ربّنا وإلهنا لك المجد والإكرام مع أبيك المبارك وروحك الحيّ القدّوس، الآن وكلّ آنٍ إلى الأبد. آمين”. (الوكالة الوطنية)
مصدر الخبر
للمزيد Facebook