فيلم “أغنية الغراب”.. أن تقدم فيلما “غريبا” للمتعة والتأمل

أن تستمتع بفيلم سينمائي.. هذا ضرورة وعنصر مهم في إقبالنا على مشاهدة الأفلام. أما أن تحضر فيلما، وتفكر في رموزه، وتحاول تفكيكها وفهمها، وتشعر بالرضا وأنت تحلل مضمونها وقصتها، فعدد قليل جدا من الأفلام قادر على القيام بذلك.

شاهدت مؤخرا فيلم “أغنية الغراب”، للمخرج السعودي محمد السلمان في أول تجاربه الطويلة. يحكي الفيلم قصة شاب اسمه ناصر، غريب الأطوار بعض الشيء، يقع في حب فتاة، ويحاول التقرب منها ومغازلتها من خلال تأليف أغنية لها.

“سماء تمطر أدمغة”.. اللقطة الأولى في الفيلم، ولربما هذا ما سنركز عليه في السطور التالية.

ملاحظة: قد يكون هناك حرق للأحداث، فاحذروا عند القراءة خصوصا إن لم تشاهدوا الفيلم بعد!

في فيلم السلمان، يتم ذكر الدماغ مرتين: مرة بشكل بصري عندما نرى السماء في بداية الفيلم وهي تمطر أدمغة على الحي، وعندما يركل رجل دماغ ناصر، وعندما يضعه على الطاولة تقريبا مع نهاية الفيلم. المرة الثانية التي يذكر فيها الدماغ هي عندما يخبر الطبيب ناصرا بأنه مصاب بسرطان الدماغ، ونواجه طبعا غرابة هذا الطبيب، بحيث نبدأ بالتساؤل: كيف سيشفى ناصر من هذا المرض على يد هذا الطبيب؟

برأيي، الأهم لم يكن المواقف التي ذكر بها الدماغ، وإنما كل المواقف الأخرى التي لم يذكر فيها. فخلال الفيلم، نكتشف أن ناصر ليس بالشخصية العقلانية: فمشاعره وعواطفه هي ما تحركه، وهو أكثر انفعالا من المحيطين به، والأكثر تأثرا بالمواقف المختلفة، ويظهر ذلك واضحا على سبيل المثال في العزاء الخاص بأحد الشعراء، عندما نرى أن ناصر كان الشخص الوحيد الذي تأثر وبكى.

إذا، بدماغ أو بدون دماغ، ناصر يمضي بحياته من دون الحاجة إليه، وهذا ما يميز بناء هذه الشخصية بكل تفاصيلها، ويضفي عليها جانبا مثيرا في الأفلام، وهو عنصر الغرابة واللامنطقية، والذي يخلق حالة من اللاضرورة في أن يكون لكل شيء حولنا منطق أو سبب. إن شاهدت الفيلم، قد لا تفهم الكثير من رموزه، وقد لا تفسر السريالية الموجودة فيه، وقد تنظر إليها من منظورك الخاص، وبناء على الخلفية التي تأتي منها، وفي السينما هذا فعل مشروع، وأفلام قليلة هي القادرة على القيام بذلك.

إذا، مثلما يفتح الفيلم المجال أمام ناصر ليعيش حياته وأيامه بعيدا عن المنطق والأسباب العقلانية، يترك الفيلم أيضا للمشاهدين الحرية في تفسير أحداثه كما يرغبون، في محاولة لما يمكن أن نسميها “ديمقراطية المشاهدة السينمائية”. بعض الأفلام تقود المشاهد إلى فهمها بالطريقة التي رغب بها المخرج والمؤلف، وبعضها الآخر، مثل “أغنية الغراب” ترك الحرية للمشاهد.

وهذا الفيلم لم يتميز بسرياليته فقط، وإنما أيضا ببعده المحلي السعودية، وبرؤيته البصرية. الفيلم اتشح بدرجات اللون البني، وهو لون الأرض، وبالتالي أعطانا بصريا إيحاء بالأجواء الصحراوية النابعة من السعودية، وهذا الأمر لا نراه فقط في المشاهد التي تم تصويرها في الصحراء أو الطريق، وإنما حتى في داخل المباني والقاعات والغرف.

عدد قليل من الناس قد يرغبون بمشاهدة فيلم مثل “أغنية الغراب”، ولكنها بالتأكيد فرصة جميلة لمشاهدة فيلم طموح وغريب، يشجع على التفكير وتحليل أبعاد مختلفة في القصة والشخصيات والرمزية.