آخر الأخبارأخبار دولية

العواقب النفسية للحرب الروسية على أوكرانيا… جبهة أخرى مفتوحة


نشرت في: 24/02/2023 – 15:23

بعد عام على الغزو الروسي، يتكفل العاملون في القطاع الصحي الأوكراني بعلاج مختلف الصدمات الناتجة عن الحرب. سواء تعلق الأمر بالمدنيين أو العسكريين، وتشهد مراكز المساعدة النفسية تزايدا في عدد المصابين بشكل مهول. ريبورتاج.

في ضواحي العاصمة الأوكرانية كييف، تغطي بضع سنتيمترات من الثلوج غابات الصنوبر ومبنى من الطراز السوفياتي. إنه مركز الصحة النفسية وإعادة تأهيل الجنود العائدين من الجبهة الذي يعالج الآن مئتي مريض. في مرأب السيارات، تعانق أم ابنها.

أصيب رينات بيدلوزي في الظهر منذ شهرين قرب بيلوهوريفكا على الجبهة الشرقية ويعاني من ارتجاج في الدماغ. “لقد كشفنا أنفسنا حتى يطلق الروس النار علينا ونتعرف على مواقعهم. لكن تم قصفنا بالدبابات” يقول الشاب الذي لا يتجاوز عمره 20 سنة قبل أن يضيف: “أشعر في بعض الأحيان بآلام في الرأس ويتواصل ذلك طيلة اليوم، أتناول أدوية وأعاني من مشاكل في الذاكرة. بعد عام من الحرب، ترتعش يداي في بعض الأحيان وكل جسدي يرتعش أيضا. كثير من رفاقي يعانون من نفس المشكلة”.

بعد أن تعافى من جروحه، ما زال رينات يعاني من اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) وسمح له بالإقامة في هذا المركز لمواصلة العلاج والتعافي ومن ثم العودة إلى جبهة القتال حسب تأكيده. جاءت أمه لزيارته في صباح ذلك اليوم من شباط/ فبراير وأكدت لنا أنها بحاجة لعلاج نفسي أيضا حيث تقول: “جئنا من كوبيانسك [فريق التحرير: مدينة بمنطقة خاركيف واحتلتها روسيا بين 27 شباط/ فبراير و10 أيلول/ سبتمبر 2022]. عشت تحت الاحتلال. وأعرف ماذا يعني أن تكون تحت القصف ليلا نهارا، لا أعرف كيف نجوت. أشعر بالقلق والتوتر. أخاف أمورا كثيرة ولا أنام جيدا”.

يعانق رينات أمه مرة أخرى. “أفضل دواء هو رؤية ابني حيا وبصحة جيدة” تقول المرأة وقد غص صوتها قبل إغلاق باب السيارة. وفي تلك اللحظة، لا يمكنك إلا الشعور بأدران الحرب والآلام التي خلفتها لهذه الأم وابنها.

للمزيد – الحرب في أوكرانيا: هل غيرت الدول العربية مواقفها بعد عام على الاجتياح الروسي؟

صدمات الحرب 

بعد هجوم القوات الروسية على أوكرانيا، يعاني الآلاف من الأوكرانيين مثل رينات وأمه من اضطرابات مختلفة: من قلق ونوبات ذعر واكتئاب واضطرابات في النوم.

في كييف، يستقبل مركز الصحة النفسية والدعم السيكولوجي مجانا المدنيين الذين يتوجهون إليه. “منذ 2014، استقبلنا هنا أكثر من 6 آلاف مريض في 9 أعوام. ولكن منذ شباط/ فبراير 2022 فقط، استقبلنا ألفي مريض. يعاني الناس الذين نستقبلهم اليوم من اضطرابات ما بعد الصدمة لأنهم كانوا قريبين من الجبهة أو أماكن المعارك، أو في بعض الحالات، رأوا جثة أو فقدوا قريبا. بعضهم كان ضحية مباشرة لانفجارات أو عاشوا تحت القصف. هذه الصور ما زالت عالقة في أذهانهم” تقول مديرة المركز فيكتوريا سولوفيوفا. وتعمل سولوفيوفا، ذات التكوين الجامعي، على استقبال المرضى منذ بداية النزاع المسلح مع روسيا في 2014 إثر احتلال شبه جزيرة القرم وجزء من منطقة دونباس.

“لقد تأثرت كثيرا بقصة امرأة قضت أكثر من شهر في مارس/ آذار 2022 في قبو بماريوبول وبسبب القصف والمعارك” تقول سولوفيوفا قبل أن تردف “تكدس نحو مئة شخص في ذلك الملجأ بدون كهرباء، لقد أناروا المكان بالشموع. وعندما خرجت من هناك، كانت الشوارع ممتلئة بالجثث. واضطرت للمرور بمعسكر تابع لـ “إف إس بي” [جهاز المخابرات الحالي في روسيا ووريث جهاز كي جي بي السوفياتي] قبل أن تجد نفسها في أمان هنا. وبعد مرور عدة أسابيع، دخلت مقهى كانت به شموع مشتعلة، عاد لذهنها ما رأته في القبو وأصيبت بنوبة ذعر. وبعد تلك الحادثة، طلبت تلقي علاج نفسي”.

للمزيد – ريبورتاج: القوات الأوكرانية تحاول وقف الزحف الروسي بدونباس شرق البلاد والحفاظ على مواقعها رغم نقص المعدات

يلجأ أيضا إلى المركز أشخاص مروا بظروف قاسية جدا ولكنهم لم يتمكنوا بعد من التعايش مع الضغط النفسي في زمن الحرب. في صباح ذلك اليوم من شباط/ فبراير، استقبل أوجين بوجينكو -أحد الأطباء النفسانيين في المركز- أمّا تعيش في كييف. لم يعد أطفالها الثلاثة يذهبون إلى المدرسة، فيتابعون تعليمهم عن بعد. تشتكي المرأة من عدم امتلاك “مساحة لنفسها” حيث يقول لوجينكو “إنذارات القصف الجوي المتواصلة تشعرها “بكثير من الضغط، تخشى باستمرار من هجوم جديد على كييف”.

في أوكرانيا، بعيدا عن الجبهات الساخنة في الشرق والجنوب، تلقي الحرب بأوزارها على العائلات. “الرجال في الجيش يتخوفون على عائلاتهم. في بعض الحالات، تعرفت نسوة ممن توجهن للجوء خارج البلاد على رجال آخرين. تتزايد القصص التي أستمع إليها عن عائلات تفككت وأزواج تطلقوا” يلاحظ أوجين بوجينكو الذي يريد وضع برامج متخصصة في الوقاية من الانتحار.

من جهتها، تضيف فيكتوريا سولوفيوفا “يصل مدى الصدمات وتداعياتها النفسية إلى 35 أو 40 عاما على الأقل. كل ما عاشوه سينتقل من جيل إلى جيل وسنتحدث عنه بعد 100 عام”.

نفسيات محطمة في حرب تزداد ضراوة 

منذ 24 شباط/ فبراير 2022، تحولت أوكرانيا بشكل كبير إلى مجتمع عسكري. وإزاء الاعتداء الروسي، دُعي الرجال إلى الانضمام للقوات المسلحة والقتال. وإذا لم ينضموا للجيش، فإن الخطابات الرسمية والجو العام في البلاد تدفعهم إلى إظهار مقاومتهم للعدو بطريقة أو بأخرى. هذا الضغط الاجتماعي يرخي بظلاله على المناعة النفسية لكل شخص. في زمن الحرب بأوكرانيا، لا يحق للرجال ما بين 18 و60 عاما مغادرة البلاد إلا بإذن خاص.

داخل الجيش الأوكراني، الذي فاجأ العالم بصموده وقدرته على صد العدو الأكثر تسليحا وقوة، أصبحت معالجة الصدمات النفسية المرتبطة بالحرب أولوية. في مصحة مخصصة للعائدين من الحرب، وسط غابات تغطيها الثلوج قرب كييف، يتابع الجنود علاجا لتخطي أزماتهم النفسية. بعضهم عاد من الأسر ومنهم من تعرض للتعذيب.

أناتولي يعبر عن ارتياحه لتلقي هذا العلاج حيث يقول “في أيلول/ سبتمبر وبعد معارك في منطقة خيرسون ومن ثم في باخموت، أصبت بارتجاج دماغي. منذ شباط/ فبراير 2022، نجا أربعة رجال فقط من فريق المشاة التي كنت في صفوفه، كل أصدقائي قتلوا وأعاني الآن من صدمة. تطلب الأمر عدة أسابيع حتى يسمح لي قادتي العسكريون بمغادرة خط الجبهة وتلقي العلاج”.

يوضح لنا معالجوه أن الشاب ما زال يظهر علامات “تصرف عدواني خارج عن السيطرة”.

ومن خلال الاعتماد على تجارب أمريكية وإسرائيلية، يستخدم الفريق الصحي بالمركز طرقا مثل الوخز بالإبر واليوغا والعلاج المغناطيسي للجمجمة والعلاج الطبيعي لتحسين وضعه النفسي.

تقول تاتيانا التي تدير فريقا من 15 طبيبا نفسانيا وأخصائيا سيكولوجيا في المصحة “معظم الجنود الذين نعالجهم عائدون من الجبهة الشرقية ومنطقة باخموت. المعارك طاحنة وفي بعض الأحيان، تكون المسافة مع الجنود الروس قريبة جدا. وفي تلك اللحظة، يكون كثير من الجنود متعبين، بسبب قلة عددهم في المناوبة على القتال. وهو ما يجعلهم يعانون من الإرهاق والإنهاك ومن مشاكل في صحتهم النفسية. لم يعد بإمكانهم العودة إلى القتال. يجب معالجتهم حتى يستطيعوا الرجوع سواء إلى وحدتهم القتالية أو إلى الحياة المدنية”.

ومع بدء تحول الحرب إلى نزاع طويل الأمد، فإن شدتها تزداد. ومنذ عام، تتحول الحرب شيئا فشيئا إلى مواجهة بين معدات ضخمة وتقنيات القتال الأكثر تطورا. وتقول مديرة المركز كسينيا فوزنيسينا “نعالج حالات ارتجاج وتلف دماغي كثيرة مرتبطة بانفجارات تعرض لها الجنود ليلا نهارا ولفترات طويلة في بعض الحالات. إنها حرب طاحنة”.

من الضروري عدم انتظار نهاية الحرب…

بعيدا عن هذه المصحة التي تعالج حصرا العسكريين، فإن الأخصائيين في علم النفس بـ”المدينة” مقتنعون أن موضوع الصحة النفسية يجب أن يكون محل اهتمام من السلطات وألا يكون موضوعا مخجلا في زمن الحرب. “في أوكرانيا، الناس ليسوا متعودين على زيارة طبيب نفسي إلا في حالات العنف الأسري” تقول آنا، وهي طبيبة نفسية التقيناها في مركز المساعدة الاجتماعية للنازحين من ماريوبول. وباعتبارها أصيلة دونباس، فإنها اضطرت للنزوح مرتين بسبب الحرب: مرة أولى في سنة 2014 باتجاه ماريوبول وثم في 2022 باتجاه كييف.

في مركز المساعدة الاجتماعية والطبية هذا، يتم تقديم الدعم لـ19 ألف نازح من ماريوبول من ضحايا الحصار الروسي للمدينة بين 24 شباط/ فبراير و20 أيار/ مايو 2022. وجدول عمل آنا ممتلئ يوميا حيث تقول: “أُجري 8 إلى 9 فحوص كل يوم. كل المرضى الذين أعالجهم جاءوا مثلي من ماريوبول. كانت لدينا نفس التجارب، علاقتي بهم أشبه بعلاقة مريض بمريض. عشنا كثيرا من الأشياء المشتركة”.

هنا، تُجرى الزيارات الطبية باللغة الروسية. المواضيع نفسها في معظم الأحيان: الخوف من الضجيج المرتفع الناتج عن الطائرات وصفارات الإنذار وكل هواجس الحرب التي تدور برأس البالغين كما الأطفال. أوكرانيا تعيش لحظة فريدة لبناء هويتها الوطنية ولكن تدفع من أجل ذلك ثمنا باهظا.

“بالنسبة لي، يمكنني أن أغادر إلى أستراليا لأن أبواي يعيشان هناك. ولكنني قررت البقاء في أوكرانيا. لست ذات نزعة قومية ولكنني الآن أشعر أنني أوكرانية وأحس أنني مرتبطة بكل الأوكرانيين. الأمر أشبه بأننا نتابع علاجا نفسيا جماعيا”.

تقدر منظمة الصحة العالمية أن 10 ملايين أوكراني، أي نحو ربع السكان، معرضون لأشكال مختلفة من الاضطرابات النفسية. في أوكرانيا، تتولى المنظمة تدريب الأطباء على مواضيع مرتبطة بالصحة النفسية وتريد أن يتم ذلك من الآن بدون انتظار مرحلة ما بعد الحرب.

من جهته، يخلص الطبيب النفسي الأوكراني أوجين بوجينكو إلى القول “نعيش أوقاتا عصيبة. اضطرابات ما بعد الصدمة تصيب ما نسبته 5 إلى 6 بالمئة في مجتمع يعيش بسلام. في السنوات المقبلة، نتوقع أن يصل هذا المعدل في أوكرانيا إلى 25 بالمئة. يجب مواجهة هذا الواقع. الحرب تجعلنا أقوى كل يوم لكنها تشكل اختبارا لا يتوقف لقوتنا الذهنية”.

النص الفرنسي: دافيد غورميزانو موفد فرانس24 إلى أوكرانيا | النص العربي: عمر التيس


مصدر الخبر

للمزيد Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى