فرانس24 تعاود لقاء متطوعين أوكرانيين للقتال ضد روسيا… ماذا حل بهم بعد عام من الحرب؟

قبل أيام قليلة من بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا، قام فريق من فرانس24 في يناير/كانون الثاني 2022 بزيارة مركز لتدريب متطوعين أوكرانيين انخرطوا في صفوف قوات الدفاع الإقليمي لتعزيز قدرات الجيش النظامي. لكن لم تمر سنة على بداية الحرب حتى تحولت هذه القاعدة إلى أنقاض وكومة من الأحجار بعد استهدافها بقنبلتين روسيتين أودتا بحياة ما يقارب 40 متطوعا. اليوم المكان أصبح يرمز لجحيم الحرب ومعاناة الأوكرانيين اللامتناهية. فرانس24 عادت إليه بمناسبة مرور سنة على بدء الهجوم الروسي والتقت ببعض الناجين… ريبورتاج.
وقف الرقيب المدرب ميخائيل سوكولوف ليتأمل بقايا أطلال مركز التدريب الذي كان يقدم فيه دروسا في التقنيات العسكرية لمجندين مدنيين شبان أوكرانيين قتلوا في غارة روسية والحزن يغمر وجهه.
وقال: “أشعر بفراغ كبير في أعماق قلبي. كانوا كلهم أصدقائي وأصبحنا نشكل عائلة واحدة. كنا نشعر بقرابة بين بعضنا البعض. لقد رحلوا لكنهم سيبقون إلى الأبد في قلوبنا كذكرى”.
تحرك مشيا بعض الأمتار بين الركام وقطع من الإسمنت والحديد والأحجار المتراكمة، ثم أضاف: ” للآسف، العديد من الذين التقيتهم العام الماضي غادروا هذه الحياة. لقد قتلوا في 12 مارس/آذار 2022 بسبب قنبلتين روسيتين دمرتا كل شيء”.
ثم أمسك هاتفه النقال وراح يرينا صورا لبعض ضحايا الغارة معلقا: “أوليغ (شاب متطوع) لم يمت هنا بل في منطقة برافيانكا. قتل في غارة جوية. كنت أعرفه جيدا. انخرط في الحرب في 2014 عندما استولت روسيا على جزيرة القرم. عائلته تسكن في مدينة خاركيف. أما أليسا (ممرضة متطوعة) كان حظها أفضل ولا تزال على قيد الحياة وتواصل عملها كممرضة عسكرية”.
معارك صعبة
قبل وقوع الغارة، كان مركز التدريب الواقع في حي “نوفزخانوف” جنوب مدينة خاركيف الواقعة على بعد حوالي أربعين كيلومترا عن الحدود الأوكرانية-الروسية، يعج بالشبان الأوكرانيين الذين سجلوا أنفسهم لتعلم فنون القتال قبل الالتحاق بجبهات الحرب.
ممرضات ومهندسون وكهربائيون ومحامون… أكثر من مائة شخص تدربوا على يد ميخائيل سوكولوف الذي التحق هو الآخر في نهاية المطاف بجبهة القتال.
“لم أعد أقوم بنفس المهمة (تدريب المجندين المدنيين)… لقد تلقيت أمرا في اليوم الثاني من بدء الغزو الروسي على بلادنا لكي التحق رفقة كتيبتي بموقع عسكري يقع شرقي غرب مدينة خاركيف لمنع العدو من الدخول إليها”.
مكث ميخائيل عدة أشهر في هذه المنطقة. ثم انتقل إلى جبهات أخرى حيث شارك في “معارك صعبة” كما وصفها، في مدينة بارينكا في مقاطعة لوغانسك. ثم حرر بعد ذلك مع رفاقه في السلاح مدنية إزيوم التي تقع على الحدود بين منطقتي خاركيف ودونيتسك شرق أوكرانيا. كما شارك أيضا في معارك قتالية أخرى في مدنية باخموت (شمال مقاطعة دونيتسك في إقليم دونباس شرق أوكرانيا) وسوليدار وتوريسك (مقاطعة دونيتسك شرق أوكرانيا).
تتويج 50 متطوعا بميدالية “بوغدان خميلنيتسكي” تقديرا لشجاعتهم
بالنسبة لمخائيل، الحرب الروسية على أوكرانيا لم تبدأ أبدا في 24 فبراير/شباط 2022 كما يعتقد الكثيرون حسب رأيه، “بل منذ 9 سنوات” أي في 2014 عندما “غزى جيش بوتين جزيرة القرم، التي هي أيضا قطعة من بلادنا يجب أن نحررها أجلا أم عاجلا” يقول ميخائيل.
ليضيف: “تسع سنوات منحت لنا الوقت الكافي لتهيئة أنفسنا. أصبحنا اليوم نقاتل بكل احترافية وقوة. لكن على الرغم من ذلك يتوجب علينا إتقان فنون الحرب وفق معايير الحلف الأطلسي إذا أردنا تغيير موازين القوى على الأرض. بعض خبراء الناتو علمونا كيف نستخدم أسلحتهم المتطورة وكيف نقود طائراتهم العسكرية ودباباتهم وكيف نتحرك في ساحات القتال. صحيح تعلمنا الكثير منهم، لكن في نفس الوقت هم أيضا تعلموا منا لأننا نحن من يعرف بشكل دقيق حقائق الميادين التي نقاتل فيها”.
هذا الانهماك في الحرب والاندفاع في الميدان جعل أكثر من 50 متطوعا من كتيبته التي تحمل رقم 113 يحصلون على ميدالية “بوغدان خميلنيتسكي” (قائد عسكري وسياسي أوكراني ولد في عام 1595 وتوفي في 1657. قاد في 1648 انتفاضة ضد الطبقة النبيلة البولندية). وهو أعلى وسام عسكري يمنح لجنود أوكرانيين أثبتوا شجاعتهم قبل وسام الأبطال.
انخراط كامل في الحرب
من بين الجنود الذين حصلوا على هذا الوسام، أليكسي سوس (37 عاما).
هذا الشاب الذي أنفق العام الماضي أكثر من 300 يورو من ماله الخاص لشراء معدات عسكرية من زي عسكري، سترة واقية وحتى عدّاد غايغر (لقياس درجات الإشعاع النووي – المحرر) صار يقاتل اليوم في جبهات صعبة في منطقة دونباس بفضل التدريبات التي تلقاها على يد الرقيب ميخائيل سوكولوف قبل سنة. شارك في تحرير منطقة “بلاكليا” قرب بلدة إزيوم في منطقة دونباس وبلدة بوروفكا (مقاطعة كاركيفسكا شرق أوكرانيا) والعديد من القرى المجاورة.
التقينا به في 2022 لكن لم نتمكن من لقاءه مرة ثانية هذا العام كونه كان على جبهة القتال. لكن أليكسي أرسل لنا عبر تطبيق واتساب بعض الصور من موقعه. صور تبين مدى انخراطه بشكل كامل في الحرب، كالتي يظهر فيها وهو مغطى الوجه لكي لا تتعرف عليه القوات الروسية أو تلك التي يكشف فيها ميدالية الشجاعة التي توج بها في ظرف زمن قصير.
“الحياة رخيصة في عيون مرتزقة فاغنر الروس”
في بداية الحرب في 2022، أسندت لأليكسي مهمات سهلة، مثل حراسة مؤسسات وشوارع مدينة خاركيف أو تقديم يد العون للشرطة. لكن سرعان ما طور قدراته العسكرية والتحق بجبهات القتال حيث انضم إلى صفوف هيئة الدفاع الوطني في منطقة دونباس شرق أوكرانيا.
للمزيد: جيش من المدنيين يستعد لمواجهة الغزو الروسي في مدينة خاركيف الأوكرانية
هناك اكتشف المعنى الحقيقي للحرب مع أوقاتها الجميلة والبشعة. وعندما سألناه عن أسعد اللحظات التي عاشها في الجبهة، أجاب: “عندما ألقينا القبض على مجموعة من الأعداء المخربين (يقصد الجنود الروس). كنت في غاية السعادة لأننا لم نفقد أي رجل من كتيبتنا”.
أما الأوقات العصيبة، فهي عديدة حسب أليكسي. أبرزها تلك التي مر بها خلال الاشتباكات التي وقعت مع مرتزقة فاغنر الروس في مدينة كريمينة في مقاطعة لوغانسك. إذ يقول “كان الوضع صعبا جدا لأنهم يملكون أسلحة إلكترونية حديثة مقارنة بتلك التي في حوزتنا. وبالإضافة إلى ذلك، فهم لا يبالون بمقاتليهم لأن الحياة عندهم رخيصة”. ومهما كانت الحرب صعبة عند أليكسي، فالأصعب حسبه هو “عدم رؤية عائلته وبعده عنها وعدم قضاء بعض الوقت معها”.
دفء العائلة لن يشعر به أبدا أوليغ ستيفانوف حتى وإن انتصرت أوكرانيا على روسيا. “فهو قد قُتل من قبل العدو في صيف العام الماضي” حسب الرقيب ميخائيل سوكولوف الذي تأثر كثيرا بفقدان أحد المتطوعين البارزين الذين تعلموا على يده.
فيما نعته جامعة خاركيف الوطنية والتي كان يعمل فيها كمهندس في مجال الجيولوجيا في مقال نشر في جريدة الجامعة “الحزن الذي نشعر به لن يداويه أحد لأن أوكرانيا فقدت بطلا ورجلا شجاعا وصادقا”. من جهتها ومنذ رحيل أوليغ ستيفانوف، قررت زوجته ليونا يتبانوفا مغادرة أوكرانيا والاستقرار في جنوب فرنسا مع أولادها.
وعن ظروف مقتله قالت لفرانس24: “كان يرتدي السترة الواقية والخوذة لكن شظية أصابت وجهه وقتلته في الحين”.
وتابعت: “أريد أن يتذكره الأوكرانيون كرجل وطني قاتل من أجل استقلال أوكرانيا منذ مظاهرات ساحة ميدان”. كما كان أيضا من بين الأوائل الذين تصدوا للغزو الروسي في 2014 في معركة “لوفينسك” شرق دونيتسك في صيف 2014.
“شعرت بصدمة نفسية لم أكن أتوقعها”
ألم الفراق والبعد إحساس تشعر به أيضا أليسا بولوتسكايا (53 عاما) منذ أن أرغمتها الحرب الروسية على الابتعاد عن رفيقها أليكسي سيرغي الذي يقاتل في إحدى جبهات القتال بمنطقة باخموت.
التحقت هذه الممرضة المدنية بقوات الدفاع الإقليمي لكي “تضع خبرتها المهنية في خدمة أكبر عدد ممكن من الناس لإنقاذ حياتهم إن تدهورت الأوضاع” كما قالت العام الماضي. وهذا ما قامت به طيلة سنة 2022 شاكرة الله كونها لم تضطر في أية لحظة من اللحظات إلى استخدام سلاحها.
لم تكن أليسا متواجدة في مركز التدريب عندما قصفته القوات الروسية. كانت تقدم الرعاية الصحية في مستشفى ليس بعيدا من مكان وقوع الغارة. “غادرت مركز التدريب قبل يوم من قصفه لأننا شاهدنا طائرة مروحية روسية تحلق في السماء. للأسف لم يتوفر الوقت الكافي لكي يغادر الجميع المركز”، تقول هذه الممرضة التي ترقت إلى رتبة طبيبة عسكرية في صفوف الفرقة 113 بمنطقة خاركيف شمال أوكرانيا.
وتابعت”: لقد نفذ الهجوم على مركز التدريب بالقنابل وليس بالصواريخ. كان دوي الانفجار شديدا جدا. للمرة الأولى أرى أشخاصا موتى. لم أشعر بأي شيء في اللحظة الأولى. كانت مهمتي تقديم فقط الإسعافات الطبية الأولية. لكن بعد أيام من الحادث، شعرت بصدمة نفسية لم أكن أتوقعها”.
أليسا بولوتسكايا:” تفجير مركز التدريب زادني قوة وعزيمة”
ورغم هذه التجربة المريرة، لم تفكر أليسا ولو دقيقة واحدة في ترك وظيفتها. “بل بالعكس، كما تقول، “أدركت أنني كنت في المكان المناسب وأن هذا الحادث المأساوي زادني عزيمة وقوة، لا سيما وأنني أنقذت شخصا واحدا على الأقل من الموت. كان وجهه ملطخا بالدماء”.
لا تملك أليسا عائلة. والداها رحلا عن عالمنا منذ عدة سنوات. لم يتبقى لها سوى أليكسي سيرغي. ذلك الجندي العشيق الذي يساعدها على الاستمرار في العيش ويمنحها القوة اللازمة على الرغم من تواجده في الجبهة بمنطقة باخموت التي يدور فيها قتال عنيف. “أخشى كثيرا عليه لأنه يمكن أن يستخدم سلاحه في أي وقت. أصلي كل يوم من أجل سلامته وأشعر بأننا سننجو من هذه الحرب”.
التقينا بأليسا في منزل مهجور شمال خاركيف يعيش فيه بعض الجنود المتطوعين. لكنها تغير مكان إقامتها كل فترة خوفا من الصواريخ الروسية التي لا تزال تتساقط على المدينة. فيما تعتقد أن الشهرين القادمين “سيكونان صعبين للغاية بسبب نقص المعدات العسكرية والذخيرة”. لكن بفضل “المساعدات الغربية التي نتمنى أن تصل إلى أوكرانيا في أسرع وقت ممكن وبفضل التدريبات التي قام بها المقاتلون الأوكرانيون على الأسلحة الغربية، النصر سيكون حليفنا”.
“أحلم بجدار طويل وعالٍ ومكهرب بين أوكرانيا وروسيا”
وعندما سألناها ماذا غيرت فيها هذه الحرب؟، أجابت بنوع من العفوية: “أصبحت أكثر صلابة وأقوى من الماضي. نحن لا نموت من أجل لا شيء، بل لأجل مستقبل أوكرانيا. اليوم أشعر أكثر من أي وقت مضى بالفخر. فحتى إن اقترحوا علي جنسية أخرى، سأرفضها”.
وعلى الرغم من أصوات صافرات الإنذار التي تدوي عدة مرات في اليوم في مدينة خاركيف والصواريخ الروسية التي تسقط من وقت إلى آخر على المباني والعمارات المهجورة، باتت أليسا متأكدة أن النصر سيكون حليف أوكرانيا. “حينئذ سأسافر مع سيرغي الذي لم أره منذ أكثر من شهر إلى جزر الكناري الإسبانية لقضاء أيام عطلة طويلة. لكن قبل ذلك، أحلم ببناء جدار طويل وعال ومكهرب بين أوكرانيا وروسيا لكي نتركهم يعملون ما يشاؤون”.
معرض للصور يسخر من الرئيس فلاديمير بوتين في ساحة “الحرية” بخاركيف
خيمة نصبت قرب ساحة ” الحرية” وسط مدينة #خاركيف شرق #أوكرنيا في بداية الحرب لتسجيل أسماء المتطوعين الراغبين في الانضمام إلى صفوف الجيش النظامي. اليوم الخيمة اغلقت لكن معرض الصور الذي يسخر من الرئيس بوتن لا يزال يستقبل الزوار pic.twitter.com/XkrLkcHLy4
— Tahar Hani (@taharhani) February 10, 2023
معرض للصور يسخر من الرئيس فلاديمير بوتين في ساحة “الحرية” بخاركيف قرب الخيمة التي نصبت لتسجيل المتطوعين الشبان.
من جهته، أكد سيرغي أن العلاقة التي يتقاسمها مع أليسا تعطيه القوة والشجاعة للاستمرار في القتال على الرغم من نقص المعدات العسكرية، منهيا: “أشعر بأنها تساعدني. فبدونها لكنت قد فقدت الحياة. أعمل المستحيل لكي أبقى حيا لأنني أريد أن ألقاها من جديد”.
طاهر هاني، موفد فرانس24 إلى منطقة دونباس شرق أوكرانيا
//platform.twitter.com/widgets.js
مصدر الخبر
للمزيد Facebook