الللبنانيون… لا قدرة لهم على زيارة الطبيب
تتضاعف تعرفة المعاينة الطبية في عيادات المستشفيات الجامعية. وتساوي 50 دولاراً في الجامعة الأميركية في بيروت للبنانيين (الدفع بالفريش أو على سعر صرف 67 ألف ليرة عندما كان الدولار 60500 ليرة)، أما التعرفة للأجنبي الذي لديه إقامة فتبدأ من 50 دولاراً وتصل إلى 100 دولار بحسب الطبيب وتخصّصه، وتساوي 100 دولار للأجانب. أما في مستشفى «أوتيل ديو» الجامعي، فتبدأ المعاينات من 40 دولاراً وتصل إلى 100 دولار، وهذا أيضاً يتوقف عند اسم الطبيب وشهرته وتخصّصه. من جهتها، تنبهت إدارة مستشفى الزهراء إلى عدم قدرة مرضاها على دفع التعرفة التي حددتها بـ600 ألف ليرة فخفضتها إلى 400، لكنها كانت حتى تاريخ كتابة هذه السطور تدرس زيادتها من جديد.
دولرة المعاينات
منذ بضعة أشهر، صارت دولرة المعاينات الطبية أمراً واقعاً بالنسبة إلى كثير من الأطباء في العيادات الخاصة، بفعل طلعات الدولار التي تجرّ معها الكلفة التشغيلية، ولا سيما بدل إيجار العيادة وكلفة المازوت والمعدات الطبية. تبرّر الطبيبة النسائية نوال طفيلي قرار تقاضي التعرفة بالدولار من زبوناتها، والذي اتخذته «عنوة لضمان استمراريتها» منذ سبعة أشهر، بـ«الرسوم التشغيلية الدولارية، والمعدات التي ارتفعت أسعارها حتى بالدولار، والآلات التي بدأت تظهر أعطالها بعد ثلاث سنوات من الأزمة». تتمنى طفيلي لو أنها تستطيع أن تعالج جميع السيدات، كما تساعد بعضهن، من دون بدل مادي بل مقابل دعوة حلوة، لكن: «كيف أسدّد المصاريف ولا سيما أقساط أولادي المدرسية والجامعية؟»، تسأل.
يروي طبيب كلى قصة «تبرّؤه» في ما يخصّ رفع التعرفة: «ذات مرة تصادفت زيارة مالك العيادة لأخذ الإيجار الذي رفعه إلى 300 دولار مع زيارة مريض يبكي فعلاً عند السكرتيرة، وعندما سألني صاحب الملك عن السبب الذي يدفع برجل يقارب الستين عاماً إلى البكاء، أجبته بأنه لا يستطيع أن يدفع مليون ليرة معاينة، والمعروف عن مريض الكلى أنه لا يستطيع تطنيش زيارة الطبيب شهرياً لأن ذلك قد يدفعه إلى غسل الكلى، وسألته بعدها: هل عرفت الآن لماذا طلبت منك أن ترحمني في الإيجار لأرحم الناس؟»
هل يعمل الأطباء بإنسانية؟
لا يمكن لوم الأطباء عند رفع التعرفة أو محاسبتهم. فـ«هذه مهنة حرّة، وللطبيب الحق في وضع بدل المعاينة الذي يجده مناسباً، أما النقابة فتضع الحدّ الأدنى للمعاينة وليس الأقصى»، يشدّد نقيب الأطباء في بيروت يوسف بخاش. ولا شيء في قانون الآداب الطبية الرقم 288 يلزم الطبيب بتعرفة معينة أو بسقف معين. لكن، قسَم أبقراط يلزمهم بأن تكون الإنسانية أساس المهنة، والمادة التاسعة من القانون المذكور تلفت إلى ضرورة أخذ حالة المريض المادية بالحسبان عند تحديد أتعاب الطبيب، كذلك الظروف الخاصة بكلّ حالة، مع التشديد على أن رسالة الطبيب تفرض عليه التعامل إنسانياً مع المريض. فهل يؤدّي الأطباء القسَم ويغلّبون إنسانيتهم على المعايير الربحية؟
بعض الأطباء يشترطون على المريض أن يكون في حوزته بدل المعاينة قبل المجيء، كما فعل طبيب أمراض السكري والغدد الصماء الذي يعاين علاء منذ سنوات، فـ«عندما اتصلت به نبّهني قبل أن يعطيني موعداً أن المعاينة صارت بـ900 ألف». إلا أن عدداً لا يستهان به من الأطباء يتصرّفون بإنسانية عندما يحدّدون تعرفة لا تسري على الجميع. فعندما يصل المريض إلى السكرتيرة يدفع ما يتيسّر معه وأحياناً يتعالج مجاناً. من هنا، كان جواب إحدى الطبيبات عن التعرفة التي حدّدتها و«تبدأ من صفر إلى 15 دولاراً»، فعلى حدّ تعبيرها: «لا يمكن معاملة جميع المرضى سواسية، هناك المقتدر والمغترب والأجنبي وهناك المتعثر مادياً». ويسخر طبيب قلب من إحدى مريضاته التي «غادرت العيادة تاركة 200 ألف ليرة على المكتب قائلة: اعتبرها ثمن فنجان قهوة، فهذه السيدة جاءت لتحتسي القهوة معي». في حالات كهذه، يتكرّر سؤال الأطباء: «هل نقتل المريض أم نخنقه إذا قال لنا إنه لا يحمل في جيبه بدل المعاينة؟»
تقشف في الطبابة
في الحقيقة، يبدو أن المريض يخنق نفسه، بعدما لم يعد يقصد عيادة الطبيب «على آخر نفَس». يتحدّث نقيب الأطباء يوسف بخاش عن «تراجع في عدد المرضى بشكل عام في لبنان، بدليل أنه، بحسب نقيب المستشفيات الخاصة سليمان هارون، انخفض عدد الأسرّة في المستشفيات من 10 آلاف سرير قبل الأزمة إلى النصف (5 آلاف سرير)». وفي حين ليست هناك أرقام دقيقة عن تراجع عدد المعاينات الطبية، إلا أن بخاش يقدّره بنسبة «لا تقل عن 40%».
يشير طبيب القلب أحمد حمود إلى أن عمله يستمرّ بعد الأزمة بنسبة 10% أو أقلّ. ويقول: «كانت العيادة تعجّ بالمرضى الذين ينتظرون دورهم، أما اليوم آتي فأجد بالكاد واحداً ينتظرني. منهم من يتصلون ويأخذون مواعيد من دون الالتزام بها، ومنهم من يسألون عن بدل المعاينة ويقولون إن شاء الله نأتي ونعرف أنه في اللغة الدارجة إن شاء الله تفيد النفي». وتحكي طبيبة نسائية عن انعكاس الأزمة سلباً على عملها، ما يهدّد عيادتها بالاستمرار، «نادراً ما تزورني سيدة من أجل المعاينة الدورية، وقلّما تزورني سيدة لتتعالج من أجل الحمل، لا تأتي غير المريضات والحوامل».
هذه الحال تهدّد مصير من بقي من الأطباء في لبنان، الذين يبحثون عن حلول «ترقيعية» مثل تناوب أكثر من طبيب على العيادة لتقاسم الأعباء المادية على قاعدة «لا تربح كثيراً أفضل من أن تخسر»، وخاصة أن عدد المرضى لم يعد يستدعي مناوبة الطبيب في عيادته طوال أيام الأسبوع.
حلول بديلة
أما المرضى فيجترحون حلولاً بديلة من زيارة الطبيب في عيادته الخاصة. هناك من توجهوا إلى المستوصفات حيث الكشوفات بـ150 و300 ألف ليرة، أو مراكز الرعاية الصحية حيث التغطية بسعر رمزي (3 آلاف ليرة مثلاً)، وآخرون يقصدون الصيدلاني للتشخيص ووصف الدواء الذي يجده مناسباً. و«في كلتا الحالتين يتضرّر المريض لأن المعاينة في المستوصفات ومراكز الرعاية تكون على عجلة، أما تشخيص الصيدلاني فأمر خطير لأنه خارج تخصّصه»، كما يحذر أبو همين.
وفي هذا الصدد، يعلن بخاش عن التحضير لمؤتمر يجمع نقابة الأطباء ووزارات التربية والصحة والعدل «لنحافظ على مستوى طبي جيد وسمعة لبنان في المجال الاستشفائي، وخاصة بعدما لاحظنا استبدال الطبيب بالصيدلاني، وهو أمر ممنوع في القانون، فحتى لو كان هناك وضع اقتصادي صعب يجب احترام المبادئ والآداب الطبية».
أما في ما يتعلق بالتوجه إلى مراكز الرعاية الطبية الأولية، فيجد بخاش أن «المشكلة في هذه المراكز أنها تأخذ طابع المستوصفات المخصّصة للفقراء حيث يكشف الطبيب بسرعة على المريض. لكن الأزمة تعطينا فرصة ذهبية لتنظيم القطاع الصحي من خلال تعزيز هذه المراكز الصحية ودعمها ومدّها بأطباء صحة عامة جيدين، وهكذا لا تعود حوالي 80% من الحالات بحاجة إلى طبيب متخصص وتكبّد عناء زيارته وكلفة معاينته». ويضيف: «هذه المراكز تطلب بدلات بأسعار مخفضة وتنتشر في القرى والمناطق، وهي ثقافة غائبة عن لبنان حيث حجم الطب العام لا يتعدى 7% من مجموع الأطباء، بينما في أوروبا 45% من الطب هو طب عائلة عام و55% هم أطباء متخصصون. وهذا يتطلّب توجيه الطلاب نحو الطب العام والعمل مع كليات العلوم الطبية ليكون هناك مراكز أولية تابعة لها».
«نقصده لأنه يشعر بالفقراء»
أحياناً، يُقصد الطبيب لأنه إنساني في ظلّ الظروف الصعبة التي نمرّ بها، مثل أحد أطباء الأطفال الذي تبقى عيادته مزدحمة بالمرضى لأنه «إنساني ويشعر بالفقراء»، بشهادة المرضى الذين ينتظرون دورهم. هنا سيدة سورية أتت من زقاق البلاط تحمل ابنها (5 سنوات) الذي لا يقوى على الوقوف، وجهه أحمر وعيناه دامعتان. «منذ أسبوع عرضته على طبيب في مستوصف مجاور، لكنه لم يتحسّن. لا يأكل، ويشعر بالدوران ولا تنخفض حرارته منذ أمس. لذا جئت به إلى هنا بعدما سمعت أن الطبيب يراعي من هم وضعهم صعب»، تقول
في الأثناء، يستمع رجل متوسط في العمر إلى حديث هذه السيدة، وعندما تصل إلى سعر المعاينة يطمئنها: «هي محدّدة بـ500 ألف ليرة. لكن حتى لو كانت مليون ليرة، الطبيب لا تفرق معه. تضعين على الطاولة المبلغ الذي تستطيعين دفعه وتغادرين».
وفي الزاوية فتاة صغيرة برفقة والديها، جاءا بها من خلدة إلى عيادة الطبيب لأنه «شاطر وكشوفاته ليست غالية». كانت ابنتهما في مدرستها عندما فقدت القدرة على الوقوف، حملها والدها، الذي يعمل في المدرسة ذاتها، إلى الطبيب ليتبيّن أنها تمر بزكام الورك.
لا يبدو المرض على الفتاة التي وصلت للتوّ بصحبة والدتها. وفيما تجلسان بانتظار دورهما في الصالون حيث يخبر كل واحد قصته، يأتي دور الوالدة لتروي: «منذ حوالي سنة تشكو ابنتي من عدم قدرتها على التنفس، لكنني وخاصة في ظل ضيق الحال لا آخذ شكواها على محمل الجد وأفسّر ما يحصل بأن أنفها مسدود بسبب الزكام حتى صارت تصدر صوتاً مرعباً أثناء تنفّسها ليلاً فأجبرت على عرضها على طبيب».(الأخبار)
مصدر الخبر
للمزيد Facebook