أوديسا مدينة تأبى الانكسار أمام الأطماع الروسية بثروات البحر الأسود
نشرت في: 22/02/2023 – 16:46
كانت مدينة أوديسا -المنتجع السياحي المتعدد الثقافات في البحر الأسود- أحد الأهداف الرئيسية لما سمتها روسيا “عمليتها الخاصة” في أوكرانيا عندما بدأت الحرب ضد جارتها الصغيرة في 24 فبراير/شباط 2022. لكن جوهرة أوكرانيا الاستراتيجية صمدت أمام الغازي الاستبدادي وقاومت بكل ما لديها للبقاء ضمن وطنها الأم، فيما تحول عمدة المدينة من رجل ذي سمعة سيئة إلى مواطن غيور على بلاده لا يقبل أي مساومة. وتعيش أوديسا منذ عام على وقع انقطاع الكهرباء، في حين تراجعت حركة مينائها للحد الأدنى.
في هذا الشتاء البارد، تضيء أشعة الشمس الدافئة شاطئ لانجيرون، وسط مدينة أوديسا جوهرة البحر الأسود بجنوب غرب أوكرانيا. نحن في شهر فبراير/شباط، وبعض السياح يتجولون أو يتذوقون فنجان قهوة. أما يوري، الرجل الخمسيني، فيفكر في حاضره ومستقبله. رحلت ابنته إلى بولندا، لكنه بقي في مدينته برفقة زوجته. وقال لفرانس24: “الأمور هنا هادئة مقارنة بما يجري في شرق البلاد.. نذهب إلى العمل عندما يتوفر، وإلا نبقى في المنزل.. فنحن لا نعيش، لكن نسعى للبقاء على قيد الحياة”.
تشهد المحلات التجارية التي تزين واجهة أوديسا البحرية نشاطا ضعيفا جدا وسط تحركات الجنود الأوكرانيين الذين يقومون بدوريات مستمرة، فيما يتمتع بعض الجنود الآخرين بوقت من الراحة قبل التوجه مجددا إلى خط الجبهة. ومن بين هؤلاء، مكسيم، أحد المدافعين عن مدينة خيرسون التي تبعد نحو 200 كيلومتر عن أوديسا، والذي استفاد من “إجازة” مدتها ثلاثة أيام.
كانت أوديسا قبل الغزو الروسي بعيدة عن أمور السياسة، حسب ما أكدت الصحافية المستقل أولينا روتاري. وقالت إنها شهدت في الأيام الأولى من الحرب كيف استعدت المدينة للدفاع عن نفسها، حيث سعى سكانها لإعداد زجاجات حارقة أو أكياس من الرمل. وتابعت: “عندما سقطت خيرسون في يد العدو، انتابنا الخوف، لكن التعبئة الجماعية أعطتني اليقين بأن أوديسا لن تسقط”. ولم تسقط، رغم أنها باتت غارقة في ظلام الليل بسبب هجوم روسي انتحاري بالطائرات المسيّرة في 10 ديسمبر/كانون الأول 2022.
حياة في ظل العتمة
تأقلم سكان أوديسا مع وضعهم الجديد، إذ بات الكهرباء متاحة ثلاث ساعات وتنقطع ست ساعات، وهكذا دواليك. وتستعين ماريا، التي تسكن مع زوجها بالطابق 12 في مبنى حديث، بموقد غاز من أجل الطبخ. ويستخدمان بطارية سيارتهما لشحن أجهزة الهاتف أو تشغيل الإنترنت أو حتى تسخين الماء. بالمقابل، لا تزال أجهزة التدفئة المركزية تعمل بطاقتها الكاملة، وهو ما يفتقد إليه كثيرون من سكان أوديسا البالغ عددهم نحو مليون شخص.
في بداية الحرب، التحقت ماريا وطفليها بوالدها العسكري وأمها في إيطاليا، لكنها عادت إلى أوديسا بعد ستة أشهر نظرا للنجاحات العسكرية التي حققها الجيش الأوكراني. “أوديسا مدينتي”، كما تقول، “وهي أفضل مكان في العالم”. وتضيف: “لقد وحدتنا الحرب أكثر مما كنا قبلها، فأصبحنا وطنيين أكثر مما كنا، وصرنا ملتحمين يدافع كل واحد منا عن غيره، لقد تحولت عقليتنا بشكل جذري”.
من جانبه، أصبح عمدة أوديسا غينادي تروخانوف وطنيا أيضا، خلافا لما كان يتوقع كثيرون. وقالت الصحافية أولينا روتاري بهذا الصدد: “شعرت بالإرباك عندما اندلعت الحرب، وانتابني الخوف بشأن أوديسا لأن العمدة لم يتحرك ولم يدل بأي تصريحات أو توجيهات عما يجب القيام به، لكني تفاجأت عندما أعلن أنه سيدافع عن أوكرانيا ضد الغزو الروسي”.
العمدة بين الماضي والحاضر
ولدت أسباب الشكك المحيطة بعمدة أوديسا جذورها من الماضي السياسي والسوفياتي لهذا الرجل البالغ 58 عاما، الضابط في الجيش الأحمر بين 1986 و1992. فقد كان يُنظر إلى غينادي تروخانوف على أنه موال لروسيا إذ كان عضوا في “حزب الأقاليم” الداعم للرئيس فيكتور يانوكوفيتش الذي حكم أوكرانيا من 2010 لغاية 2014 وأحد المقربين من الكرملين. لكن عاصفة الثورة تسببت في تنحيه من منصبه.
لا يحب عمدة أوديسا الخوض في السنوات التي سبقت الحرب الروسية على بلاده، فقد كان على سبيل المثال من الأوكرانيين الذين لزموا الصمت عندما ضمت موسكو شبه جزيرة القرم لأراضيها. وردا على سؤال فرانس24 عن سبب موقفه آنذاك، قال إن “برلمان القرم وافق على القرار الروسي”، متسائلا وساخرا “لماذا لم ندافع عن القرم مثلما ندافع عن بلدنا اليوم؟”.
وقد ارتبط اسم غينادي تروخانوف بقضايا فساد أو بعصابات في عدة مناسبات، لكنه نجا من أي متابعة قضائية. وقالت الصحافية أولينا روتاري بهذا الشأن: “لا أثق في تروخانوف على الإطلاق، فكيف أصبح مواطنا مخلصا بين عشية وضحاها علما أن مواقفه تغيرت وتحولت في السابق. فكان من الداعمين للرئيس يانوكوفيتش قبل أن يدافع عن سلفه بترو بوروشنكو ثم أصبح مواليا لفولوديمير زيلينسكي عندما بدأ القضاء يحقق في شبهات بتورطه بقضية فساد”. وتجزم الصحافية على أن العمدة كان سيدعم (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين في حال تمكن الجيش الروسي من دخول أوديسا”.
أوديسا أدارت ظهرها لروسيا نهائيا
من جانبه، يقر تروخانوف بأنه يتكلم اللغة الروسية “مثل 90 في المئة من سكان المدينة الساحلية”، لكنه متأكد من أن الأوكرانيين “سيتكلمون هنا بلغتهم في المستقبل”. ويرفض الاتهام بأن أوديسا معقل روسي في أوكرانيا، إذ قال لفرانس24 لدى عودته من باريس حيث تم إدراج وسط المدينة التاريخي ضمن التراث العالمي لمنظمة اليونسكو: “صحيح أن الثقافة الروسية موجودة في كل مكان هنا، لكن أوديسا مدينة أوروبية”.
وأوضح العسكري السابق بأن “الدوق (الفرنسي) ريشليو كان أول حاكم للمدينة (في عام 1803) وأن الإيطاليين هم من شيدوا معظم المواقع البارزة فيها”، ثم استدرك قائلا: “كان من الصعب عليّ -كما على كل الناس في جيلي الذين ولدوا أو عايشوا الاتحاد السوفياتي- أن نرى الصواريخ الروسية تتساقط على رؤوسنا”.
وبات واضحا أن مدينة أوديسا قد أدارت ظهرها نهائيا لروسيا، هذا البلد “الشقيق” الذي أعلن عليها حربا بلا رحمة. ولاحظت فيوليتا ديدوك، وهي مرشدة سياحية، أن الحديث باللغة الأوكرانية في شوارع أوديسا أصبح متداولا أكثر من أي وقت مضى، بعد أن كان الجميع قبل الحرب يتكلمون بالروسية”، مشيرة أن “الموالين لروسيا باتوا أشد المعارضين لها، لا سيما فئة الشباب والتي لم تعد تسمع الموسيقى الروسية أو تشاهد أفلاما روسية كما في السابق”.
مدينة عريقة اهتم بها الإغريق والرومان قبل الروس
لكن المرشدة السياحية أقرت بأن “هناك لدى الجيل القديم من يدعي بأن أوديسا مدينة روسية وأن الحرب (ضد أوكرانيا) مجرد خيال، لكن الغالبية غيروا موقفهم منذ بداية الحرب”.
كانت فيوليتا قبل الحرب تبدأ جولتها السياحية بالمدينة مشددة على أن “أوديسا لم تر النور عند استيلاء الإمبراطورة الروسية كاترين الثانية [المعروفة بـ “كاترين الكبرى”] عليها عام 1794، وإنما تاريخها العريق ومجدها تكونا تدريجيا حول مينائها وحول طابعها العالمي”، مضيفة أن “الدين الحقيقي للمدينة هو التجارة، فقد اهتم بها الإغريق والرومان والعثمانيين قبل الروس نظرا لما تتيحه من فرص لإقامة ميناء في مياهها العميقة بعيدا عن الرياح وجليد الشتاء”.
ظلت أوديسا على مر العصور والقرون أبرز ميناء في أوكرانيا، نظرا لموقعها المميز على ضفاف البحر الأسود، إلا أنها خضعت للحصار بعد أن منعت روسيا بسفنها الحربية أي تجارة من وإلى مينائها. ومنذ 24 فبراير/شباط 2022، لم تعد أوكرانيا تسيطر سوى على تسعة من موانئ البلاد من أصل 18 كانت خاضعة لها قبل 2014، حسب ديميتري بارينوف نائب رئيس هيئة إدارة الموانئ في أوكرانيا.
يعتبر الحصار بالنسبة للمدينة الساحلية مأساة إضافية. قبل عام، كانت نحو مئة سفينة تجارية راسية بمينائها وملايين الأطنان من القمح مخزونة في حاوياتها، ما سمح للموظفين البالغ عددهم آنذاك نحو ألف شخص بالحفاظ على مناصبهم رغم تسجيل انخفاض في مرتباتهم.
وفي 22 يوليو/تموز 2022، تم توقيع اتفاق إسطنبول حول القمح بين أوكرانيا، الأمم المتحدة، تركيا وروسيا، أقر إقامة ممرات في البحر الأسود وضمن عمليات التصدير وإجراءات المراقبة المتاحة للأطراف الموقعة. وتم تجديد الاتفاق في 2 نوفمبر/تشرين الثاني، ما وضع حدا للحصار البحري الشامل ضد أوكرانيا.
موسكو تتحكم في حجم النشاط التجاري في أوكرانيا
على إثر هذا الاتفاق، استعاد النشاط التجاري بميناء أوديسا حركته الطبيعية، ما تسبب في نوع من الاختناق جراء الزحام المتزايد يوميا. فقد تشكلت طوابير كبيرة في خليج المدينة نظرا للعدد الكبير من السفن التي تنتظر دورها للرسو. وقال ديميتري بارينوف إن 117 سفينة تسعى حاليا لدخول الميناء فيما تريد 20 الخروج منه، موضحا أن إدارة الميناء بحاجة لتسيير نحو عشرين عملية تفتيش يوميا لكن الروس لا يقبلون القيام سوى بأربع أو خمس.
تتحكم روسيا بالتالي في جحم النشاط التجاري بميناء أوديسا وفي أوكرانيا بشكل عام، فقد صدّرت كييف منذ أغسطس/آب 19 مليون طن من المواد الزراعية فيما قدراتها تقدر بـ 29 مليونا.
لم تر الصحافية أولينا أي شحنة في الأشهر الماضية، وبات الميناء تحت حراسة مشددة من الجيش الأوكراني الذي فرض قيودا لدخول الواجهة البحرية. وقالت إن بعض الناس لقوا حتفهم على الشواطئ جراء الألغام الروسية، داعية مواطنيها لاحترام الإجراءات الأمنية المفروضة.
وحسب الصحافية، فإن الكثير من سكان أوديسا تعرضوا للصدمة جراء الحرب، لا سيما المهجرين أو الفارين من عمليات التعذيب والاغتصاب التي تمارسها القوات الروسية في المناطق المحتلة. أما الروس، الذين طالما تمتعوا بسحر وتاريخ المدينة الساحلية، فهم منبوذون وباتوا غير مرحب بهم.
النص الفرنسي: دافيد غورميزانو | النص العربي: علاوة مزياني
مصدر الخبر
للمزيد Facebook