في الذكرى الـ 18 لاستشهاد رفيق الحريري… الغياب غيابان
لن تكون المشهدية في ساحة الشهداء اليوم، في الذكرى الثامنة عشر لاغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، كالسنوات السابقة. فالوضع اللبناني لم يكن ولا مرّة بهذا السوء الذي هو عليه اليوم. اللبنانيون في ضياع. الأمل بالمستقبل يكاد يكون معدومًا. الهمم مثبطة. العزائم خائرة. الأعصاب مشدودة خوفًا مما هو آتٍ. لا بوادر حلحلة في الملف الرئاسي. خلاف بين اللبنانيين على كل شيء، حتى على ما يمكن اتخاذه من إجراءات متواضعة، على المستويين التشريعي والتنفيذي. لا قواسم مشتركة حول وسائل الإنقاذ. الساحات متروكة للفوضى وبعض الفوضويين والغوغائيين. وحده الدولار الأميركي هو من يتحكّم بيوميات الناس المغلوبين على أمرهم. الغلاء نار. التهريب إلى خارج البلاد على مدّ العين والنظر. الإضرابات تشّل البلاد.
ومع كل هذا لا يزال اللبنانيون يحّنون إلى الماضي، ولو أن ما كان فيه من سوء تخطيط هو الذي أوصل البلاد إلى ما وصلت إليه اليوم. هذا الماضي، وما فيه من تناقضات بين نظريتي “هونغ كونغ (رفيق الحريري)، و”هانوي” (“حزب الله”)، عاشه اللبنانيون ببحبوحة وازدهار، ولو مصطنَعين، على رغم زلزال العام 2005، الذي أودى بحياة الرئيس الحريري ورفاقه، وعلى رغم حرب تموز، وعلى رغم كل المآسي التي مرّت على البلد.
فالمشهدية اليوم، وفي ذكرى استشهاد الرئيس الحريري، تختلف عمّا سبقها من ذكريات على مدى الثمانية عشر عامًا، مع ازدياد افتقاد لبنان لرجل من وزن رفيق الحريري، في الوقت الذي تكاد فيه الدولة تلفظ أنفاسها الأخيرة من جراء الفراغ في موقع رئاسة الجمهورية، ومحاولة تعطيل دور مجلس النواب، بعد المحاولات المتكررة لتعطيل دور الحكومة على رغم إصرار رئيسها على عقد جلسات وزارية في كل مرّة يرى فيها أن البلاد في حاجة إلى مثل هذه الجلسات، وما يُتخذ فيها من قرارات وما يصدر عنها من مراسيم، هي بمثابة البحصة التي تسند الخابية، وتحول دون وقوعها وتحطّمها. ففي كل مرّة يتذكرّ فيها اللبنانيون الرئيس الشهيد لا يسعهم إلا ذكر اتفاق الطائف، الذي أنهى الحرب في لبنان، وفرض تعديلات على الدستور، وعزز المشاركة في الحكم، وأرسى ثوابت وطنية جديدة، وأهمها اعتبار لبنان وطنًا نهائيًا لكل أبنائه، وهو عربي الهوية والانتماء، من دون أن يعني ذلك الحاجة الملحة إلى تطبيقه بالكامل، نصًّا وروحًا، مع ما تقتضيه الظروف من ادخال بعض التعديلات التجميلية عليه.
لا نقول جديدًا عندما نقول إنه كان للرئيس رفيق الحريري دور طليعي في التحضير لاتفاق الطائف، وفي الإعداد لوثيقة الوفاق الوطني، وإن هذا الدور أهّله للمرحلة التي تولّى فيها رئاسة الحكومة في العام 1992. فنجح مع أركان تلك الفترة في تنفيذ برنامج واسع لإعادة اعمار البلاد، وتحقيق المصالحات وإعادة المهجرين، وكان لبيروت نصيب وافر من إنجازاته الكثيرة، من خلال إطلاق ورشة فريدة من نوعها، اعتمد بواسطتها اعمار وسط العاصمة، وفرض عودتها الى المكانة المتقدمة بين عواصم الدول كما كانت قبل الحرب.
بالطبع لم تكن فترة توليه المسؤولية خالية من الخضّات والمشاكل، التي كان للخارج تأثير كبير فيها على الداخل اللبناني. ولكن وعلى رغم الصعوبات الكثيرة التي واجهته، تمكّن الرئيس الحريري من تجاوز معظمها بحكمة ودراية، خصوصًا عندما تجنّب الانجرار إلى صدامات كان يرى فيها ضربًا لأسس وثيقة الوفاق الوطني.
فأمام الأوضاع المالية الصعبة التي كان يرى أنها واصلة إلى منزلقات خطرة لم يقف الرئيس الحريري مكتوف اليدين، بل “شمرّ” عن زنوده، وأستثمر صداقاته الدولية، وبالأخص الصداقة الوطيدة، التي كانت تربطه بالرئيس الفرنسي جاك شيراك، التي مكّنته من إطلاق مؤتمرين دوليين من أجل لبنان، فكان مؤتمر “باريس 1″ في شباط 2001 و”باريس 2” في تشرين الثاني 2002 اللذين حضرتهما شخصيات عربية ودولية رفيعة المستوى، وتم منح لبنان هبات مالية كبيرة، مع اشتراطهم منذ ذاك الوقت تطبيق بعض الشروط الإصلاحية. وهذا ما لم يحصل تمامًا كما هي الحال اليوم.
ففي هذه الذكرى اليوم غصّة ودمعة على غياب تيار سياسي لبناني وحدوي وعروبي حتى العظم عن الساحة السياسية الوطنية وعن الساحة السنّية.
في الذكرى الـ 18 غيابان في غياب واحد هو لبنان التعدّدي، لبنان الانفتاح، لبنان العربي، لبنان القوي بصداقاته، لبنان القوي بوحدة أبنائه.
مصدر الخبر
للمزيد Facebook