آخر الأخبارأخبار محلية

إجراءات مصرف لبنان في ميزان التقييم: حصر صيرفة لصرف الرواتب والأجور

كتب خبير مخاطر المصرفية والباحث في الإقتصاد محمد فحيلي:

 

 

 

 

 

عندما يطلب من المراقبين والمحللين الحديث عن الوضع الإقتصادي والمالي في لبنان سرعان ما يتناسون التداعيات الإقتصادية السلبية لجائحة كورونا، والحرب بين روسيا وأوكرانيا وما تسببت به من إضطرابات في أسعار المواد الغذائية والمحروقات، ويحملون طباعة العملة لتمويل المصاريف التشغيلية للدولة مسؤولية التضخم والضغوطات التضخمية المتواصلة في الإقتتصاد الوطني. الحقيقة هي غير ذلك كليا

 

منصة صيرفة هي من أهم الأدوات المتوفرة بأيدي السلطة النقدية وهي الأكثر تأثيرا في الإقتصاد لإدارة سعر صرف الدولار والحد من الضغوطات التضخمية. المنصة، حتى هذه اللحظة، مخصصة لعرض (لبيع) الدولار بسعر مدعوم من قبل مصرف لبنان وليست منصة للتداول الحر (عرض وطلب من دون قيود)، والحديث عن هذه المنصة لجهة الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية وتداعياتها التضخمية، والكتلة النقدية بالدولار الفريش، وأن لبنان مازال يغرق بأزماته من دون أفق والآتي أعظم! كل ذلك يستند إلى معطيات غير دقيقة ويلجأ إلى إعتماد أسلوب الترغيب والترهيب وليس لعرض الأمور بموضوعية وكما يجب.

 

الكل يعلم بأن فشل السلطة السياسية الحاكمة بإقرار الإصلاحات وتنفيذها، وإعطاء مصرف لبنان الوكالة الحصرية في إدارة الأزمة والإقتصاد قد يكون قد ساعد على منع الانزلاق الحاد والعميق في تداعيات الأزمة، ولكنه لن ينقذ الإقتصاد الوطني ويدفعه بإتجاه التعافي والنمو. الغائب الأكبر عن الساحة الوطنية هي الحلول المستدامة. عدة محطات مرت على لبنان وكان لكل واحد منها تداعياتها على الإقتصاد الوطني بكل تفاصيله، وهي التي أسست لهذه المرحلة التي نعيشها اليوم

1. تشرين 2019 وإنطلاقة الانتفاضة الشعبية العفوية دفعت المصارف إلى الإقفال بحجة تعذر الموظفين من الوصول إلى مكان العمل بسبب التظاهرات والإحتجاجات على معظم الطرقات. شكل هذا الإقفال المفاجئ صدمة سلبية على الإقتصاد المحلي على محورين أساسين: تدني حاد وسريع بالإستهلاك والإنتاج بسبب عدم قدرة المواطن الوصول إلى أمواله، وكان “رصاصة الرحمة” على الثقة بين المصارف والمودعين في ظل غياب كامل للرقابة على أداء المصارف.

2. آذار 2020 والتعثر غير المنظم. إستمرت الإنتفاضة وانتشرت على معظم الأراضي اللبنانية وواكب ذلك أعمال شغب ضد المصارف والمصرفيين وارتفعت الأصوات مطالبة السلطة التنفيذية بعدم سداد إستحقاق آذار لسندات اليورو بوند ظناً منهم بأن هذه الأموال سوف تبقى لجميع البنانيين في حال عدم دفعها للخارج، ولا أحد تكلم عما قد يحدث للقطاع المالي الوطني عند التعثر. هذا القرار السياسي البحت بالتوقف نهائياً عن خدمة الدين العام (بالجزء المكون بالعملة الأجنبية، وهو الأهم) ولأول مرة بتاريخ لبنان كان إنتكاسة:

مالية: أخرج لبنان من الأسواق المالية العالمية

مصرفية: تدن حاد ومفاجىء بالتصنيف الإئتماني للبنان ما دفع بالمصارف المراسلة إلى إعادة النظر بقواعد الإشتباك بينها وبين المصارف اللبنانية، وتسبب ذلك بإختناق في تمويل التجارة الخارجية (بحجم ما يقارب ال 25 مليار دولار بين إستيراد وتصدير)، إضافة إلى تجميد التحاويل إلى الداخل اللبناني

نقدية بسبب فقدان الثقة بالنظام الذي يدعم العملة الوطنية، وبما أن الإقتصاد اللبناني كان مدولرا( أي يعتمد في الجزء الأكبر منه على الدولار الاميركي في التداول)، كان من السهل جداً نبذ العملة الوطنية لصالح البديل الأقوى. والقيود والضوابط التي وضعتها المصارف، والتوقف التام عن إعتماد وسائل الدفع المتاحة من قبل المصارف فاقم من حدة الأزمة النقدية لجهة فقدان الثقة بالعملة الوطنية والنظام المصرفي

3. نيسان 2020 وتحرك السلطة النقدية لإنقاذ النظام المصرفي. في 9 نيسان من ال2020 صدر عن مصرف لبنان التعميم الأساسي الذي يحمل الرقم 150 الذي بموجبه أسس لفتح حسابات بالدولار الفريش محررة من كل القيود شرط أن تكون الأموال مصدرها تحاويل من الخارج و/أو إيداعات نقدية. هذا التعميم كان بمثابة حكم بالإعدام على كل الحسابات المكونة (والموجودة) بالعملة الأجنبية قبل إصدار هذا التعميم وفقدت هذه الحسابات قيمتها الإقتصادية الحقيقية (وخصوصاً أن وسائل الدفع المتاحة من خلال القطاع المصرفي كانت قد توقفت بمعظمها) في ظل ظروف غامضة وغياب تام للرقابة من قبل السلطات المختصة. التعميم 150 أحدث صدمة في القطاع المصرفي وجمدّت تعامل المصارف مع أصحاب الودائع بالعملة الأجنبية وإرتفع منسوب إنعدام الثقة بين الطرفين. سارع مصرف لبنان بعدها لإنقاذ هذه الودائع وأصدر التعميم الأساسي رقم 151 الذي وضع آلية للسحوبات الاستثنائية من الحسابات بالعملة الأجنبية المكونة قبل نيسان 2020، وحدد قيمة الوديعة بالعملة الوطنية على سعر 3900 ليرة للدولار الواحد وترك المركزي لكل مصرف تحديد سقوف السحب اليومية والأسبوعية والشهرية لكل مودع وليس لكل حساب

 

رغم كل سلبيات هذه التعاميم (150 و 151) كان لها تأثيرات إيجابية عديدة:

عودة الدماء إلى عروق القطاع المصرفي من خلال الحسابات الفريش وتنشيط التحاويل من خارج لبنان بعد أن توقفت نهائياً بعد التعثر الغير منظم عن سداد إستحقاق اليورو بوند.

أسس التعميم 151 لقواعد إشتباك جديدة بين المصارف والمودعين سهلت ووفرت الوصول إلى أرصدة الحسابات المصرفية التي كانت قد فقد أصحابها الأمل بالوصول إليها، ومكنتهم من توظيفها في تمويل فواتير الإستهلاك للأفراد والمصاريف التشغيلية (من رواتب وأجور وغيرها) للمؤسسات.

 

السماح للمؤسسات بإستعمال أرصدتها لدفع الرواتب والأجور ساعد جداً بالتخفيف من أعباء هذه المصاريف التشغيلية، وسياسة مصرف لبنان أعطت دعماً معيشيا إضافياً للمستفيدين.

لفهم تداعيات التعميم 151 دعنا نعطي مثلاً على ذلك:

إذا كان راتب الموظف في القطاع الخاص آنذاك ألف دولار اميركي، كان يصرف بالليرة اللبنانية بقيمة 1،500،000 ليرة. بعد الإنتكاسة وبسبب التعميم 151، أصبح من الأسهل دفعه بالدولار في الحسابات المصرفية (المعروف حالياً باللولار) بقيمته الأصلية، أي ألف دولار مقيم (لولار). بهذا يكون صاحب المؤسسة مستفيدا لأنه سُمِح له باستعمال أرصدة حساباته في المصارف؛ وأصبح راتب الأجير بالليرة اللبنانية 3،900،000 ليرة عوضاً عن ال 1،500،000 الذي كان يتقاضاها قبل التعميم. وعندما تعدل سعر دولار السحوبات الإستثنائية وأصبح 8،000 ليرة، إرتفع الراتب الشهري للأجير إلى 8 ملايين ليرة من دون أي كلفة إضافية لا على الأجير لأن ضريبة الدخل بقيت على سعر صرف ال 1،500 ليرة، ولا على صاحب المؤسسة لأن إشتراكات الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي يجب أن تتناغم مع إحتساب الضريبة على الدخل.

 

هذا المتنفس ساهم بمساعدة المستهلك ومؤسسات القطاع الخاص على الصمود في وجه الأزمات الإقتصادية والمعيشية ولكنه جاء على حساب القطاع العام لأن إيرادات القطاع الخاص كانت تواكب سعر صرف الدولار في السوق الموازية، أما إيرادات القطاع العام (من ضرائب ورسوم) فبقيت على سعر الصرف الرسمي، أي 1،500 ليرة للدولار الواحد.

 

4. تعميم مصرف لبنان الأساسي رقم 161 جاء في نهاية العام 2021 ليؤكد بأن الأمر سوف يكون دائما للمركزي في إدارة الإقتصاد الوطني حتى تستيقظ مكونات الطبقة السياسية وتطلق مسيرة الإصلاح المطلوبة. وكأن مصرف لبنان إستوعب خفايا السوق الموازي وقواعد إشتباك المحتكرين والمضاربين في الأسواق وقرر توظيف ما توفر له من إمكانيات لتوفير السيولة لتسديد فواتير المصاريف التشغيلية للدولة مع الحد من الضغوطات التضخمية وتأمين الحد الأدنى من الإستقرار في سعر الصرف وفي أسعار السلع الإستهلاكية. الأسباب الموجبة وراء هذه الخطوة كانت خروج لبنان من الأسواق المالية (لم يعد باستطاعة الدولة اللجوء إلى الدين لتمويل العجز) وإنخفاض حاد، لدرجة الإنعدام، في الإيرادات؛ بات السبيل الوحيد لتمويل نفقات الدولة هو طباعة العملة ومع هذا أصبح هم واهتمام المركزي معالجة الضغوطات التضخمية. التعميم 161 أسس لمجلس نقد (Currency Board) من دون الإعلان عنه رسمياً. اليوم يحافظ مصرف لبنان على كتلة نقدية بالدولار يوظفها، أولاً، لدعم الكتلة النقدية المطلوبة بالليرة اللبنانية لتسديد رواتب وأجور موظفي القطاع العام (الحلقة الأضعف في الإقتصاد الوطني حالياً)، وثانياً لتجفيف السوق من الفائض من الأوراق النقدية بالليرة اللبنانية من خلال إستبدالها بالدولار، وأخيراً، جزء من هذه الكتلة يوظف لتأمين بعض الدولارات للقطاع الخاص. ويتم “تدوير” (recycling) هذه الكتلة عارضاً وطالباً الدولار مقابل الليرة وفق ما تدعي الحاجة: يعرض الدولار من خلال منصة صيرفة، ويطلبه في السوق الموازي وهو اللاعب الأكبر لأنه يحمل الكم الأكبر من الأوراق النقدية. والعرض والطلب هذا يوظف ليس للتأثير على سعر صرف الدولار بقدر ما هو لضبط التضخم وتكريس الاستقرار النقدي ولو يحصل ذلك على سعر صرف مرتفع نسبياً

 

الأهم أنه كان للتعميم 161 حصته بالمساهمة في تمكين المستهلك، صاحب الدخل المحدود، على الصمود وإليكم بعض التوضيحات:

إذا أبقينا على راتب ال 1،000 دولار في الحسابات المصرفية (لولار) لموظف القطاع الخاص، و 8 ملايين ليرة لموظف القطاع العام، السماح لصاحب الدخل الحصول على راتبه وفق أحكام التعميم 161 (بالدولار الفريش على سعر منصة صيرفة) له إيجابياته المتعددة:

لموظف القطاع الخاص، توأمة التعميمين 151 و 161 فيصبح الراتب 210 دولار فريش على سعر 38،000 ليرة للدولار الواحد.

لموظف القطاع العام، ولأن راتبه بالليرة، وبفضل التعميم 161، يصبح الراتب ايضاً 210 دولار فريش لأن قيمة راتب موظف القطاع العام والخاص هي ذاتها بالليرة.

ومن خلال السوق الموازي، يصبح الراتب بالليرة 8،845،000 ليرة على سعر صرف ال 42،000 ليرة للدولار الفريش الواحد، أي إضافة 845،000 ليرة على القدرة الإستهلاكية من دون أن تحتسب هذه الإضافة عبئا إضافيا على المصاريف التشغيلية لمؤسسة القطاع الخاص ولا على الخزينة العامة.

هذا الفارق يتحمله مصرف لبنان وتداعيات هذا الفارق برواتب البعض هي على الجميع لأن هذا الفائض هو إضافة على الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية وهناك كلفة إضافية (إرتفاع في سعر صرف الدولار في السوق الموازية) لتجفيفها للحد من التأثيرات التضخمية.

 

هذه الضبابية المتعمده أنتجت ثغرات في إحتساب الكلفة الحقيقية للنشاط (أو النشاطات) الإقتصادية أو/و في إحتساب النمو او الإنكماش الإقتصادي. حتى أن هناك غموضا، وهو أكثر من ضبابية، وسببه إنعدام ثقة المواطن بالنظام المالي وغياب الرقابة ساهم بتفاقم هذا الوضع. هذا الغموض أدى إلى إستحالة إحتساب حجم الكتلة النقدية التي تساهم في دوران العجلة الإقتصادية لأنه من الصعب معرفة كمية الأوراق النقدية المخزنة في الصناديق الحديدية في المنازل والمكاتب، والكمية التي توظف في تمويل النشاطات الإقتصادية (الإستهلاك والمصاريف التشغيلية)

 

طباعة العملة يساهم في إنتاج ضغوطات تضخمية إذا تم توظيف مجملها في تحريك العجلة الإقتصادية ولهذا يجب عدم إحتساب الكمية المخزنة كجزء من الكتلة النقدية عند دراسة وتقييم التأثيرات التضخمية لطباعة العملة. ولهذا السبب يضطر مصرف لبنان، من وقت إلى آخر، إلى إستهداف الأوراق النقدية المخزنة بالليرة عندما يرفع الضوابط عن طلب الدولار عبر منصة صيرفة (لحاملي الأوراق النقدية بالليرة من دون حدود)، والمخزنة بالدولار الفريش من خلال إنتاج سعر صرف مغريا للدولار في السوق الموازي. لهذا السبب يجب إبقاء منصة صيرفة وتوظيفها حصرياً لصرف الرواتب والأجور لأن فتحها أمام حاملي الأوراق النقدية من دون حدود يشجع على التخزين والمضاربة واحداث إضطرابات في سعر الصرف عوضاً عن التقلبات في سعر الصرف التي هي من ضمن التوقعات.

 


مصدر الخبر

للمزيد Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى