لا تأتِ هذه السنة طفلًا في مزود
منذ أن اعتُمد التقويم الميلادي تقويمًا عالميًا، اعتاد المسيحيون بمختلف بدعهم إحياء ذكرى ميلاد يسوع كما وصلت إليهم بحقيقتها الكاملة وفق الروايات الإنجيلية، وبالأخص في انجيلي لوقا ومتى، حيث ولد في مزود متواضع، وفي مغارة باردة. وهكذا توالت السنون، حيث كان المسيحيون يتوارثون احتفاليات هذه الذكرى بكثير من الايمان والرجاء، وأيضًا بكثير من المحبة الخالية من الانانية المتسلطة، والتي تحاول إلغاء الآخر المختلِف في التفكير والتعبير والتصرّف.
بهذه الروحية كان المسيحيون يحيون أهمّ ذكرى في تاريخ البشرية على المستوى الايماني المسيحي. وكانت هذه الاحتفالات بسيطة ومتواضعة. كانت تشبه طفل المغارة. لم تكن الزخرفات والبهرجات والعادات الغريبة قد طغت على روحانية المناسبة وقدسية رمزيتها. ومع تقدّم التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي عن بعد، وسيطرة الماديات على الروحانيات، وتعّلق الناس بالقشور أكثر من تعّلقهم بالجوهر، بدأت هذه الذكرى تفقد معناها الحقيقي رويدًا رويدًا، وأصبح الميلاد بالنسبة إلى بعض الغرب “هوليداي”، واحتلت عبارة “هابي هوليداي” مكان “مري كريستمس”، وطغت شجرة الميلاد مع زينتها على فكرة المغارة وما ترمز إليه.
ولأننا ننساق في لبنان وراء كل ما هو “فرنجي” على أنه “برنجي” بدأت عائلاتنا تفقد المعنى الحقيقي لذكرى ميلاد يسوع، الذي نزل من سمائه ليخلص العالم، وليردّ الإنسان الخاطئ إلى حضن أبيه السماوي. وبدأنا ننساق غرائزيًا نحو عادات هي غير عادات آبائنا وأجدادنا، التي كانت بسيطة ومعبّرة عن هذا الفرح الميلادي الحقيقي، البعيد عن كل ما هو مصطنع وتجاري وتسويقي والآتي إلينا من وحشية الحضارة المزيفة والإيديولوجيات والبدع، التي حوّلت العيد إلى مادة استهلاكية، فأصبح الناس ينتظرون “بابا نويل” ونسوا صاحب العيد الحقيقي، واعتقدوا خطأً أن ما يفعلونه هو الصواب، لكنه في الحقيقة هو انغماس في إضاعة الاتجاهات الصحيحة للبوصلة، التي يُفترض أن تقودنا جميعًا نحو مزود المغارة، التي قصدها المجوس من بلاد فارس لتقديم الذهب والمرّ واللبان لملك المجد، الذي لوحده يليق التكريم والسجود.
ثمة من يعمل عن سابق تصوّر وتصميم لكي يلتهي المؤمنون بالقشور وينسوا الجوهر، وقد نجح هؤلاء في ما سعوا إليه، بعدما بات العيد يقتصر على المظاهر والعادات الوثنية، التي تناقض الحقيقة الايمانية لفعل الخلاص. ولذلك بات العالم منغمسًا أكثر فأكثر في ما هو مادي، ونسي أو كاد ينسى أن الذي أرسله الله نورًا للأمم هو العيد الحقيقي، وأن كل ما عداه هو عمل لا ينسجم مع روحية خالق السموات والأرض وما يُرى وما لا يُرى.
لقد شوهّوا لنا العيد. ولأننا ضعفاء النفوس سيق بنا إلى ما لا يشبه حقيقة “المزود”. أبهرتنا الأضواء، وأعمى قلوبنا الضعيفة الجشع والطمع والحسد والكبرياء وحبّ الذات.
ولكثرة معاصينا لم نعد نميّز بين الخير ونقيضه، ولم نعد قادرين على سماع صوت الحق، الذي وحده يحررنا.
لا أريدك أن تأتي هذه السنة طفلًا ضعيفًا ملفوفًا بالأقمطة وموضوعًا في مزود. لا اريدك أن تبقى حملًا وديعًا. لا أريدك أن تهرب مع أمك مريم وصفيك يوسف إلى مصر خوفًا من بطش هيرودس. لا أريدك منتظرًا ثلاثين سنة لتكبر بالقامة والحكمة معًا. أريدك جبّارًا، قويًا، رافعًا سوطك في وجه الذين يدنّسون هيكل الرب، ويجعلونه مغارةً للصوص. أريدك أن تطرد تجّار الهيكل من بيت أبيك. أريدك ثائرًا في وجه فريسيي هذا الزمان، وما أكثرهم. أريدك أن تقول لكل هؤلاء اذهبوا عني يا مبغضي أبي، لأني كنت جائعًا ولم تطعموني، عطشانًا ولم تسقوني، عريانًا ولم تكسوني، مريضًا ولم تعودوني، ومحبوسًا ولم تزوروني.
لا أريدك أن تبقى متفرجًا على من يعيثون في الأرض فسادًا. أريدك أن تتدّخل كما تدخّلت في صادوم وعامورة لأنك لم تجد بارًا واحدًا. أريدك أن ترسل إلى الأرض طوفانًا فلا ينجو منه سوى من كان مثل نوح.
لقد كثرت آثامنا وتركناك وحيدًا في مغارتك. لا تتركنا وحيدين في الظلمات والتعاسات.
مصدر الخبر
للمزيد Facebook