في رومية… مصابون بأمراضٍ نفسيّة وعقليّة محكوم عليهم بـالسجن المؤبد
كتبت الأخبار:
داخل أحد الأجنحة في المبنى المُواجه لمبنى الأحداث في سجن رومية، يجلس «رامي» القرفصاء مسنداً ظهره إلى جدار. يرفض الثلاثيني الرد على أسئلة المسؤولين أو التجاوب مع زملائه. يدير رأسه نحو النافذة، مشيحاً بنظره عن إحدى المتطوّعات التي يتحلّق حولها سجناء في «جلسة موسيقية»، يستخدمون فيها الطناجر والملاعق في «العزف»، معبّرين عن سعادتهم بالمتطوّعة التي جاءت مُحمّلة بالحلوى والسجائر.
كل هذه الضوضاء لا تُشتّت «تركيز» رامي في الفراغ. عارفوه يُدركون أنّه في مكانٍ آخر. فهو، منذ أُدين بتهمتَي القتل والاغتصاب قبل عامَين، منفصل تماماً عن الواقع وفق ما يُسميه الأطباء النفسيون «الصمت الانتقائي».
كثيرون يُشبهون رامي. أحدهم يبرّر قتله والده بأن الأخير «فلّت الخنازير في الغرفة»، وآخر عجوز ينادي متطوّعة شابة بـ«ماما»، وثالث يلوّن دفتر رسومات للأطفال، ورابع يبكي لأنّه لم ينل حصّته من قالب حلوى، وخامس يستيقظ مرعوباً مدّعياً أن زميله في الغرفة يتآمر لقتله…
هذه أحوال المرضى النفسيين والعقليين داخل «المبنى الأزرق» المؤلف من طبقتين عند مدخل سجن رومية. يقيم في الطبقة الأولى من يُعانون أمراضاً نفسيّة أو عقليّة وعدداً قليلاً من مرضى الكلى موزّعين على 14 غرفة، فيما يقيم في الطبقة الثانية نحو 15 مريضاً بالـ«أيدز»، موزّعين على 3 غرف. ويضم المبنى حديقة صغيرة ونظارتين في الطبقة السفلى يستخدم العسكريون إحداهما لتخزين «الحرامات» الشتويّة والشراشف. فيما لا توجد إدارة مباشرة للمبنى الذي يتبع إدارياً لآمر مبنى الأحداث في رومية.
عملياً، لا اهتمام استثنائياً بالسجناء الاستثنائيين. ولا معايير مُحدّدة للعسكريين الذين يُنقلون للخدمة في «المبنى الأزرق» تؤهلهم للتعامل مع السجناء، علماً أن بعض هؤلاء غير قادرين على خدمة أنفسهم بسبب العجز أو التأخر العقلي. بعض مرضى الـ «أيدز» في المبنى يؤكدون أنه «يُمنع علينا الاختلاط مع السجناء الآخرين في الطبقة الأولى، والكثير من العسكريين يخافون الاقتراب منّا أو لمسنا خشية انتقال العدوى إليهم لجهلهم بحقيقة المرض وكيفيّة انتقاله».
في المقابل، يؤكد المسؤولون عن المبنى أن «هذه الأمور يستحيل أن تحدث»، مشيرين إلى أنّ «السجناء من المرضى النفسيين، وبعضهم يعاني من فصام حاد (شيزوفرينيا)، يختلقون هذه الأمور ويخبرونها لأهاليهم، كما أن كثيرين من المصابين بالأيدز مدمنون ويتناولون أدوية أعصاب ويقومون باختلاق هذه الأمور». ويؤكد أحد المتطوّعين ممن يزورون المبنى بصورة دوريّة أنّ الوضع «ليس مأساوياً كما يتم تصويره، والمبنى أفضل من بقية المباني في رومية ومن كل السجون الأُخرى، ونحاول تأمين مستلزمات السجناء المادية وحتى العاطفية».
يؤكد رئيس جمعيّة «عدل ورحمة» الأب نجيب بعقليني انعدام الفحوصات الطبيّة لمرضى الـ«أيدز»، عازياً ذلك إلى تمنّع إدارة السجن عن إدخالها لاحتوائها على مواد ممنوعة. ويوضح لـ«الأخبار» أنّ «هذا الأمر تم حلّه مع إدارة السجن وسنقوم بإجراء الفحوصات للسجناء قريباً». يقر بعقليني بأن «هناك تقصيراً، لكنّه ليس مقصوداً، وسببه الأوضاع التي يمر بها لبنان. إذ إن أدوية كثيرة مقطوعة من الصيدليات فكيف الحال داخل السجون». ويلفت إلى أنّ طبيباً نفسياً من «عدل ورحمة» يتردّد دورياً إلى المأوى الاحترازي للإطلاع على أوضاع السجناء ويعدّ تقريراً بعد الزيارة.
«السجن حتى (لا) الشفاء»
عام 2016، خرج أقدم سجين في لبنان محمد نور الدين عيتاني من السجن بعد 38 عاماً وراء القضبان تنفيذاً لحكم صدر في حقّه بناء للقانون (صادر عام 1943) بالبقاء في المأوى الاحترازي «إلى حين الشفاء».
لم يخضع عيتاني لمعاينة طبيب خلال سنوات حبسه، وما من تقرير طبي عن صحته النفسية. بقي خلف القضبان إلى أن خفّض القاضي حمزة شرف الدين (كان يرأس إحدى لجان تخفيض العقوبات في حينه) عقوبته وأخرجه من السجن قبل أن يتوفّى عيتاني إثر إصابته بكورونا خارج السجن. عيتاني واحدٌ ممن «حالفهم الحظ» بالموت خارج السجن. إذ إن من يرتكبون جرائم بدافع مرض نفسي أو عصبي يبقون داخل المأوى الاحترازي، ويرفض معظم القضاة إطلاقهم بحجّة أنّ لا شفاء من هذا الاضطراب وأنهم يُشكّلون خطراً على المجتمع. وفيما يجيز القانون نقلهم إلى مصحة عقلية بيْد أنّ لا مصحات تابعة للدولة، فيما المصحات الخاصة إمّا ذات كلفة باهظة أو أنها لا تتمتع بمعايير عالية. تقول والدة سجين نجحت في نقله إلى مصحة في الكورة لـ«الأخبار»: «لم يُعاملوه جيّداً، بل كانوا يُقيّدونه ويمنعونني من مقابلته، لكنني قبلت بذلك لعدم إعادته إلى المأوى الاحترازي حيث لا رعاية متخصّصة. وهو بالفعل عاد إلى المأوى بقرارٍ قضائي»، لافتةً إلى أن القاضي «لم يأخذ في الاعتبار التقارير الطبية التي أكّدت أن ابني تحسّن ولم يعد يُشكّل خطراً على المجتمع، وارتأى بإبقائه في المأوى الاحترازي».
وقد أُنشئ المأوى الاحترازي عام 1994 بعد موافقة مجلس الوزراء بناء على قانون العقوبات والمرسوم 1038 تاريخ 1950.
ويتناول شرف الدين في دراسته الجهود التي بُذلت في العمل على مشروع تعديل عصري ومتكامل للمرسوم الاشتراعي رقم 72 تاريخ 9/9/1983 لرعاية المرضى العقليين وعلاجهم وحمايتهم. إلا أن هذا المشروع توقّف العمل عليه، بحسب النائب السابق غسّان مخيبر، موضحاً أن الاقتراح عالق في لجنة الصحة النيابية منذ ما قبل الانتخابات النيابية.
شرف الدين الذي كان منتدباً من وزارة العدل لمتابعة التعديلات على القانون، يوضح لـ«الأخبار» أنه «بموجب القانون الحالي لا يُمكن لأي سجين أن يخرج من المأوى وحتى ولو استقر وضعه أو تم نقله إلى مركز طبي متخصص، لأن المُعضلة تكمن في ما نص عليه القانون بأن السجين لا يخرج إلا لحين شفائه، في حين أن المريض النفسي لا يُشفى بشكلٍ كامل»، مشدداً على ضرورة إقرار تعديلات على القانون تتيح خروج السجناء إلى منازلهم أو إلى مصحات عقليّة، وعلى ضرورة تأمين الرعاية الصحيّة للسجناء في المأوى وخصوصاً أن وزارة الصحة التي ألزمها القانون بتقديم الرعاية الطبية ومستلزماتها، غائبة عن المأوى الذي بات ينتظر مساعدات الجمعيات الحقوقية.
ويطالب شرف الدين بـ«تحسين الظروف المعيشية وإجراء صيانة دوريّة للمراحيض وشبكتي الكهرباء والمياه والتدفئة»، لافتاً إلى أن «لا رقابة فاعلة داخل المبنى للتأكّد مما يتم تناقله عن وجود فوضى أو تعذيب يُمارس بحق السجناء، إضافة إلى غياب الأدوية والمستلزمات المعيشيّة».
«المبنى الأسود»!
كثير من الحكايات يتم تناقلها من داخل المبنى الأزرق. قصصٌ عن تعذيب وعن سجناء أصحّاء نقلوا إلى المأوى الاحترازي لكثرة الإشكالات التي كانوا يقومون بها في المباني الأُخرى.
أحد السجناء في المأوى يؤكد أنّ «العسكريين لا يجرؤون على الدخول إلى أجنحتنا، ويُسلّمون مهمّة ضربنا إلى بعض السجناء البلطجيّة». وهو ما تؤكده والدة السجين محمّد قطيش الذي كان يُعاني اضطراباً نفسياً وقتل والده ببندقية صيد، ومات داخل المأوى. وتوضح أنّها كانت تلاحظ آثار الضرب والتعذيب على ابنها الذي قال لها إن سجيناً يلقّب بـ«ريفو» يضربه وحاول خنقه. و«عندما أبلغت إدارة السجن بالأمر كان الجواب: بدك تتعوّدي شو ما عنا غير ابنك». وقد قصدت مسؤولين للطلب من القضاة إخلاء سبيل ابنها على أن تتكفّل بعلاجه، خصوصاً أن التقارير الطبيّة الصادرة عن أطباء المبنى كانت تؤكد أنه لم يعد يُشكّل خطراً على بيئته، «لكن كلّ الأبواب لم تفلح في إخراجه من المأوى إلى أن تبلّغت في حزيران الماضي أنه توفي بعد نوبة قلبيّة».
تؤكد الوالدة لـ«الأخبار» أنّ ابنها مات قتلاً على يد أحد السجناء وتبرز صوراً تشير إلى وجود آثار تعذيب على جثة ابنها وفقدانه لأسنانه الأماميّة. في المقابل، ينفي المسؤولون رواية والدة قطيش، موضحين أنّ السجين المتهم بقتله خرج قبل موته، وهو ما تنفيه الوالدة، مؤكدة أنّه خرج بعد أيّام قليلة من موت ابنها. وإلى قطيش، يتم تداول أخبار عن وفاة أكثر من خمسة من نزلاء المبنى هذا العام. “الاخبار”
مصدر الخبر
للمزيد Facebook