حال الجامعة اللبنانية من حال أهلها
بداية، أتفهّم الاستغراب والاستنكار، والسخرية، أيضًا؛ لا بل حتى أني حلمت اليوم بأحد طلابي القدامى يسخر مني. هذا الأمر لم يحصل قط سابقًا، أقلّه أمامي، لأسباب يعلمها من يقرأ هذه الأسطر.
نعم أتفهّم السخرية، فالطلاب الذي سيتخرّجون هذا العام، لم يعرفوا أيًّا من أساتذتهم إلا لبضعة أيام، وبعضهم لم يلتقِهم إلا في مراقبة الامتحانات. من هنا، ندرك أنّ الأستاذ لم يعد بالنسبة له إلا ذاك الصوت، وأحياناً الصورة، التي تخاطبه نتفات من وراء شاشة؛ هذا إن خاطبته. نعم لا أحد يدّعي كمال الجامعة اللبنانية.
نعم، أتفهّم سخريتهم لأن السلطة حوّلت الأستاذ ( إلّا من عفا عنه ربي)، وكل من مسّت، إلى دمى ذات أسلاك، تحرّكها، أو تحرّك معظمها كيفما شاءت. أضربي: يُضربون. توقّفي قسرًا: قسرًا يتوقّفون. فكّي فورًا: على الفور يفكّون. أليس هذا حالنا؟ نُضرب أسابيع لنعود بخفَّي حنين للتعليم؟ نتذرّع بما يخطر في عقلنا المذلول أمام طلابنا عن أسباب توقّفنا وعودتنا؟ ودائماً ما تكون المصلحة هي عبارتنا. أما أمام الطلاب، فالأستاذ الجامعي أصبح عبدًا للمال، ولا هدف له إلا المال، وكأنهم يقولون، ما هذا الكائن الطامع الحاقد الذي لا يشبع؟
نعم أتفهّم سخطهم لأنهم يريدون أن تنتهي امتحاناتهم وينتقلوا إلى العطلة الصيفية أو أن يتخرّجوا من جامعةٍ لم تعنِ لهم شيئاً. فهم الجيل الأول، في تاريخ الجامعة، الذي لم يعش أي حياة جامعية؛ ظاهرة ربّما لم نشهدها حتى أثناء الحرب الأهلية.
ونعم أيضًا، أتفهّم قلّة احترامهم لكائن فقدَ احترامه لذاته، حين تحوّل ذليلًا مذلولًا على أبواب المصارف، والأفران، ومحطات البنزين، والصيدليات، والمستشفيات، كما شأن اللبنانيين بغالبيّتهم، وحين تحوّل إلى “أيمتى” في منصّات التواصل الخاصة بأبناء مهنته، فيستنكر دعوةً لحضور مؤتمر بحثي، لأن لا شاغل له ولا همّ، منذ أكثر من عام، إلا السؤال عن “متى”: متى تستحقّ المعاشات، متى تستحقّ المساعدات، متى يحلّ بدل النقل علينا ضيفًا.. متى ينتهي هذا الذل، ومتى نستعيد “الخصوصية”؟
الخصوصية يا سادة، ما أوهمتنا به السلطة منذ عقود خلت، حتى بتنا وكأننا جماعة مصطفاة من البشر، لا نحاسب أنفسنا، ولا نقبل أن يحاسبنا أحد. فعملنا كامل، وتفكيرنا كامل، وشرحنا كامل، وإشرافنا كامل وكل ما فينا بديع.
على كل، أسمح لنفسي “الكاملة” (وإن لم تستنتجوا أني من نفسي أسخر، فرجاءً توقّفوا عن القراءة) أن أصف بعبارات بسيطة ما هو واقعنا اليوم:
الطلاب: لا يستطيع معظم الطلاب الوصول إلى مبنى الكليات والمعاهد للمشاركة في الحضور شخصيًّا، فبعضهم بحاجة لما يتجاوز نصف الحد الأدنى للأجور عن كل يوم حضور. ولا يستطيع جزء منهم أن يتابع المحاضرات من بُعد لعدم توافر الكهرباء إلا وميضًا. والبعض، أو الأكثرية مؤخرًا لن تستطيع متابعة المحاضرات من بُعد، لأن دون الاشتراك بالانترنت ألوفًا باتت مؤلّفة، والطامة إن تمكّنوا من الاشتراك فيها، فإن بعض المناطق محرومة تمامًا منها. وأكيد، أضيف إلى الصعوبات الموضوعية المذكورة أعلاه، تكاسل قسم كبير منهم عن طلب العلم، لأنهم تعوّدوا على ظروف أكاديمية استثنائية من خريف 2019 إلى اليوم.
الموظفون: لا يزال الموظف في القطاع العام يتقاضى أجره الذي حصل عليه، واحتفى به، في سلسلة رتب ورواتب تعود إلى 5 سنوات مضت. هذه الرواتب اليوم لا يعدل أقصاها (من موظفي الجامعة)، مع بدل النقل، 100 دولار في الشهر. أضف إلى ذلك أن كل ما وُعد به الموظف في القطاع العام من بدل نقل لم يحصل على قرش واحد منه منذ بداية عام 2022. أما المساعدات الاجتماعية، فبعضهم حصل على نتف منها، بعد ذل مضاعف أمام أبواب المصارف، ليدفعها ثمن بنزين على بضعة أيام حضور، ليتمكّن من تسيير المرفق بالحد الأدنى.
المدرّبون: وهم، مع الأساتذة المتعاقدين، أكثر الفئات مظلوميّة من أهل الجامعة. يتم الإتجار بهم وبسبل عيشهم كل يوم. وُعدوا بدخل شهري، لم يروا منه شيئاً. معظمهم لم يتلقّوا راتباً منذ 4 أشهر، يعيشون من لحمٍ حي وصل للعظم، أو من مهن أخرى لتمكّنهم من العيش، كريمًا كان، أو ما شابه.
الإدارة، ونعني بها الإمكانات اللوجستية في الإدارات: فهي غير موجودة، نحن نقنّن المازوت لنشغّل المولّدات عند الحاجة القصوى، كما هي حال معظم بني هذا البلد. ولكن وصلت بنا الأمور، وبفضل نباهة واهتمام بعض الموظفين الذين ندر وجودهم اليوم، أن تمكّنا من إتمام الامتحانات، باستخدام أوراق معاد تدويرها: أوراق مطبوع على جانب واحد منها، كرّاسات امتحانات قديمة فارغة، أوراق جرى تخزينها من 30 عامًا لانتفاء الحاجة إليها (أوراق داكتيلو). لا حبر في المطابع، ولا في ماكينات التصوير، لا أقلام تكتب ولا أوراق للشهادات. لا ماء في الحمّامات، ولا حمّامات أصلًا.
أما الأساتذة بمختلف مسميّاتهم الوظيفية، فالأكبر سنًّا منهم، والأقدم خدمة، يتقاضى ما يعادل مئتين وخمسين دولارًا، وآخرون يحصلون على أقل من مئتين منهم؛ ومعظمهم، وهم من المتعاقدين، يحصلون على ما معدّله تسعمئة دولار، في السنة مرة، بدلاً عما قدموه من خدمات تعود لسنتين ماضيتين. هؤلاء كانوا الأكثر مرونة في إيجاد سبل أخرى للعيش، ولكن معظمهم لم يتخلَّ عن الجامعة، ولن يتخلى عنها. أما الباقون، فمنهم من تدبّروا أمورهم سرًّا، وبعضهم يعيش من ملاليم بيضاء شارفت أن تأتي عليها أيامنا السوداء. أما السواد الأكبر فينتظرون رحمة ربي، أو غمزة ممن يأمرون بإضراب أو ينهون عنه.
الجامعة منكوبة، عبارة باتت مستهلكة ومقزّزة. الجامعة نُكبت وانتهت. الجامعة تعيش أيامها الأخيرة. الجامعة قد تكون ارتحمت مع مطلع العام المقبل. فكيف لموظف أو أستاذ أن يصلها ليعمل؟ أو طالب أن يصلها ليتعلّم؟ وكيف لنا أن نستمر في تعليمٍ من بعدٍ أفقدنا كل جدّية وسمعة ومستوى؟
ألا يدرك أهل الجامعة أن أجدادهم وآباءهم هم من فرضوا الجامعة على السلطة؟ السلطة نفسها التي تحاول اليوم فكفكتها وتسريب طلابها المقتدرين، وتقاسُمِهم بين مؤسسات تعليم تفرخ كالفطر، منها الجاد ومنها التجاري؟
لا يكفي أن نعلنها منكوبة. إن لم تستطيعوا إحياءها اعلونها ميتة. اقفلوها نهائيًّا، ودعوا الناس تدرك ما أهميتها، فالناس لا تدرك أهمية النفيس إلا بعد فقدانه.
الجامعة اللبنانية ليست جامعة الفقير، فالشعب بمعظمه بات فقيرًا.
الجامعة اللبنانية جامعة الوطن، كل الوطن.
مصدر الخبر
للمزيد Facebook