العطالة، التهريب والرشوة… معضلات تونس ما بعد الثورة في “الحرقة”

نشرت في: 21/05/2022 – 19:15
بعين سينمائية “شاعرية”، جمع المخرج التونسي لطفي ناثان مجموعة من معضلات تونس ما بعد الثورة في فيلمه “الحرقة”. ووقف ناثان من خلال بطل العمل عند بعض هذه الإشكالات التي تتعثر تونس الحديثة في القطع معها والانتقال لخطوة أخرى، ما زرع الشكوك مجددا حول مستقبلها بعد الكثير من الآمال جاء بها الربيع العربي. وإذا كان الفيلم ينتهي بمشهد صادم ومأساوي، يحرق فيه البطل الشاب نفسه بعد صب البنزين عليه، فالمخرج لربما لا يقصد بالضرورة البطل، وإنما كان يشير إلى مستقبل بلد تلتهمه الخيبات دون اهتمام من أي أحد.
يبقى الوضع الاجتماعي في الدول المغاربية والعربية أحد المواضيع التي تثير اهتمام صناع السينما من أبناء المنطقة، باعتباره يظل صعبا ومعقدا، وتخفق الحكومات عموما في إيجاد حلول للأزمات التي يفرضها. ويحاول المخرجون في المنطقة تناول المسألة بعين سينمائية وبرؤى متعددة، تعري فنيا هذا الواقع.
فيلم “الحرقة” للمخرج التونسي لطفي ناثان انبثق من هذا الوضع، ليقرب الجمهور من صورة حياة شاب، يصارع أهوال الزمن لكسب لقمة العيش ويحاول إنقاذ أسرته، المتكونة من بنتين، من خطر الضياع الذي يهددهما خاصة مع وفاة الوالد، ورحيل الأم في وقت سابق.
واختار المخرج أن يسرد هذا الواقع المرير على لسان شقيقة بطل الفيلم الصغرى، التي أصبحت تحت مسؤوليته مع وفاة رب الأسرة، معتمدا كثيرا على الصورة بدل الحوار، لتبليغ مشاعر هذا الشاب الذي يغلي من الداخل حزنا، جراء القهر والفقر والغبن حتى في الدفاع عن نفسه أمام رجل سلطة.
نظرة تتحدث بأشياء كثيرة
قد يكون هذا المشهد معتادا إلى حد ما، بالنسبة لسكان الحدود التونسية الليبية، مشهد تعرض فيه على الطرقات كميات كبيرة من وقود السيارات المهرب أمام أعين السلطات، التي لا يتدخل رجالها في غالب الحالات إلا للحصول على رشاوى حسب ما يظهر الفيلم في مناسبات مختلفة. لكن نقل هذا الواقع إلى السينما، كان يحتاج للمسة فنية خاصة، توفق إلى حد كبير المخرج في إضفائها عليه.
وظل بطل الفيلم طيلة مشاهد هذا العمل يحمل نفس النظرة، وقد تزداد حدتها في لحظة من اللحظات، خاصة عندما تواجه حياته تعقيدات أكثر. نظرة تتحدث بأشياء كثيرة، قدر المخرج أنه لا يمكن بسط تفاصيلها مجتمعة إلا بواسطة الكاميرا، باعتبارها تتفوق على الكلمات في استعراض ما يمور بدواخل البطل بالكثير من الإفاضة.
عندما تأتي المحن مجتمعة…
اختار بطل الفيلم منذ سن مبكرة أن يدبر حياته اليومية ومتطلباتها لوحده بعيدا عن أسرته. لكن وفاة والده بعد صراع مرير مع مرض السرطان، أضاف على عاتقه مسؤولية ثانية وهي إعالة أسرته الصغيرة المكونة من بنتين وحمايتهما من غدر الزمن، فيما قرر شقيقه الأكبر الانتقال لمدينة سياحية للبحث عن عمل. وصعوبة العيش ستدفعه في كل لحظة إلى التفكير في الهجرة عبر قوارب الموت يوما.
لكن عليه قبل ذلك أن يعد العدة لهذه المغامرة المحفوفة بالكثير من المخاطر، ويجمع ما يكفي من المال لدفعه إلى مهربي البشر لعله يفلح يوما في العبور لأوروبا ويتغلب على وضعيته الاجتماعية الصعبة. تحدث لمحيطه عن مشروعه الذي ليس بالسهولة التي ربما يتوقعها. وحاول صديق له مرارا أن يقنعه للعدول عن هذه الفكرة ويوضح له الصعوبات التي يواجهها المغتربون من مواطنيه في بلدان المهجر.
لكن حلم الهجرة بقي مؤجلا حتى إشعار آخر، لأنه لا يملك الإمكانيات لأجل ذلك، ولا يمكنه في الوقت الحاضر ترك أسرته الصغيرة فريسة لعوامل الدهر أيضا. وكما يقال، في بعض الأحيان تأتي المحن مجتمعة. فزيادة على الوضع المادي المزري الذي يتخبط فيه. سيتصل به مصرف يخبره بأن والده ترك في عنقه دين، عليه تسديده وإلا سيتم حجز البيت.
حاول جمع ما يكفي من المال لتسديد القرض والحفاظ على سقف أسرته. وكان خياره الوحيد في ذلك هو دخول مغامرة تهريب الوقود على مستوى أكبر وأخطر. فبدأ بتهريب الوقود من الحدود التونسية الليبية على متن سيارة رباعية الدفع رغم كل ما يهدده من مخاطر. لكن تجربته لن تدوم طويلا بعد تدخل قوات الأمن أثناء عملية تهريب وحجز السيارة التي هي في ملك مشغله، فيما لاذ هو بالفرار.
ومع هذا الوضع الجديد، اضطر لاستئناف نشاط بيع الوقود المهرب على الطرقات. إلا أنه كان في كل مرة عرضة لمضايقات بعض رجال الشرطة الذين يطالبونه بدفع أتاوى لهم بالقوة حتى لو كان مردوده اليومي من هذه التجارة، الممنوعة في واقع الأمر، هزيلا. وعندما أراد أن ينتفض يوما على أحدهم كان مآله الضرب والسجن.
كخلاصة، لم يسمح واقع بطل الفيلم المر بظهور أي أمل في أفق مغلف بالسواد. وستقوده ظروفه يوما لحرق نفسه أمام بناية حكومية في إحالة على مأساة البوعزيزي في سيدي بوزيد التي أشعلت فتيل الثورة. لكن تونس اليوم قد تكون تغيرت بعد مرور أكثر من عشر سنوات عليها، ولن يهتم بحالته أي كان حتى لو أنهى حياته بهذه الطريقة. وفق ما يظهر الفيلم.
للمزيد: حسين فهمي: السينما العربية تستحق مشاركة أكبر بمهرجان كان ولدينا أفلام بجودة عالية
وجه تونس ما بعد الربيع العربي
يقدم الفيلم وجه تونس ما بعد الربيع العربي التي لم تتمكن بعد من التخلص من ممارسات سلطوية، تعود إلى العهد البوليسي السابق. وتجد نفسها رغم مناخ الحريات المتاح اليوم، مقيدة بهذه الممارسات المتحالفة مع أزمة اقتصادية واجتماعية صعبة، يوجد الشباب في طليعة من يؤدي ثمنها. والمخرج لا يعطي حلا للمعضلة لأنه ليس بدوره، فهو يقوم بتشخيص سينمائي فني لها، ويضع الدولة أمام المرآة، لتقرأ بوضوح أكثر الندوب السلطوية والاجتماعية.
“المخرج قال بصوت عال ما يتحدث عنه التونسيون كل يوم”، تقول صحافية من هذا البلد المغاربي قبل أن تضيف: “حتى وإن كان الفيلم واقعيا، لقد حضرت فيه لمسات المخرج كثيرا، وكان عملا ممتازا. فعلا في تونس نستطيع أن نقول ما نشاء بفضل تحرر الألسنة، لكن البلد محتاج اليوم أيضا لمن يغير هذا الواقع المرير”.
وبالنسبة لليون، وهو طالب فرنسي في العلوم السياسية، الفيلم “شاعري رغم واقعيته، وكانت نهايته قاسية جدا. ومن الصعب الحديث بعد مشاهدة أفلام من هذا النوع. هو قصة شاب يبحث عن ذاته. فيلم مليء بنظرات رجل محطم داخليا. في مهرجان كان، نسبح عموما في عالم سينمائي من الخيال، لكن هنا الأمر يتعلق بالواقع. إنه أمر مفجع. إنها صدمة” ليست مرتبطة بفرد واحد، وإنما يريد المخرج عبرها أن يشير ربما إلى مستقبل بلد تلتهمه الخيبات أمام أنظار الجميع، ولا يوجد هناك من يحرك ساكنا.
بو علام غبشي موفد فرانس24 إلى مهرجان كان
مصدر الخبر
للمزيد Facebook