آخر الأخبارأخبار دولية

في أوديسا الأوكرانية.. اجتثاث “الترويس” على قدم وساق

نشرت في: 23/02/2023 – 16:25

سرّع الهجوم الروسي على مدينة أوديسا الساحلية الرئيسية في جنوب أوكرانيا، الحرب على “الترويس” أي محاولة الأوكرانيين اجتثاث التأثير الروسي، وهي عملية حساسة بالنسبة لمدينة ترتبط منذ زمن طويل باللغة والثقافة الروسية. فبعد أن تم تغيير أسماء الشوارع، وتفكيك التماثيل، وسحب كتب الأدب الروسي من رفوف المكتبات، أسقطت الحرب المقاومة الأخيرة لأنصار الترويس. ريبورتاج.

في منتصف ليل 28 ديسمبر/كانون الأول 2022، بلا ضوضاء أو ضجيج، قام موظفو بلدية أوديسا بجنوب أوكرانيا بتفكيك تمثال للإمبراطورة الروسية “كاثرين الثانية العظيمة”، التي تعد من أبرز حكّام روسيا على مر التاريخ ومؤسسة مدينة أوديسا في عام 1794.

وبالنسبة إلى أرتاك هريهوريان الشاب المختص في الكمبيوتر من أوديسا، فقد آن الأوان لتوافق سلطات المدينة أخيرا على تفكيك “التمثال الذي كان، لسنوات، بمثابة نقطة تجمع لكافة الموالين لروسيا، والذين يذهبون إلى هناك بانتظام حاملين أعلامهم الروسية ومكررين شعاراتهم الدعائية لموسكو”، حسب ما قال الشاب في مطلع شهر فبراير/شباط 2023.

استوديو غرافيك/ فرانس ميديا موند

ولطالما كان تمثال الإمبراطورة كاترين العظيمة التي انتزعت في نهاية القرن 18 جنوب أوكرانيا من قبضة الإمبراطورية العثمانية، مصدر قلق دائم في أوديسا. كان الهدف من هذا النصب البرونزي الذي نصب في عام 1900، جعل الإمبراطورة بمثابة “الأم” المؤسسة للمدينة. لكن في عام 1920، قام البلاشفة بإزالته لأول مرة واستبدلوه بتمثال لكارل ماركس، ثم بآخر لتخليد ذكرى متمردي البارجة بوتيمكين.

لاحقا في عام 2007، قامت بلدية أوديسا بترميم التمثال الأصلي وإعادة نصبه على عرشه الرخامي المشرف على درج بوتيمكين، والذي يتيح بلوغ ميناء المدينة. بعد نحو 15 عاما، وفيما باتت أوديسا في مرمى الصواريخ الروسية، فقد أصبح رمز الارتباط بالإمبراطورية الروسية هذا لا يطاق في نظر أرتاك صاحب الـ26 عاما، والذي يعتبر أن الوقت قد حان لإعادة التمثال إلى المتحف.

كاثرين الثانية ورموز العالم الروسي

“في سبتمبر/أيلول 2022، جئت إلى هنا ورششت طلاء أحمر على التمثال. قبل بضعة أيام، رسمت فتاة صغيرة على التمثال وكتبت: كاثرين = بوتين. تدخلت الشرطة وحاولت تغريمها. لكن مع الحرب، لا أعتقد أن على الشرطة القيام بذلك. ما قامت به (الفتاة) هو من أجل أوكرانيا وهذا شيء جيد. بالنسبة لي، لو أبدت الشرطة معارضتها، فهذا لأنها موالية لروسيا. إذا فلقد كنت أريد أن أدعمها من خلال ما قمت به. لأنه في حال قام كافة مواطني أوديسا بالاحتجاج على وجود هذا التمثال، فلن تكون الشرطة قادرة على فعل أي شيء. لم يكن الأمر يتعلق بتدميره، لكن القول إنه لا يمكن تركه هناك إلى الأبد، من المستحيل الحفاظ (في منتصف الحرب) على الرموز الروسية في أوديسا.

لقد كسب أرتاك وأصدقاؤه رهانهم. ففي 30 نوفمبر/تشرين الثاني، قرر مجلس المدينة بالإجماع، بناء على استشارة محلية، تفكيك التمثال مرة أخرى.

يوضح أرتاك: “كاتثرين الثانية قمعت عدة شعوب، بينهم البولنديون والأوكرانيون والأرمن.. إنها واحدة من أكثر الشخصيات المؤذية في التاريخ. لقد ارتكبت قبل 200 أو 300 عام نفس الفظائع التي ارتكبها بوتين. وبالنظر إلى ما يحدث حاليا، فهل يمكننا تخيل رؤية تماثيل لبوتين بعد 200 عام؟ هذا مستحيل.. لا نريد المزيد من النصب التي تمجّد الديكتاتوريين في مدننا وفي شوارعنا، نريد أن نكون في ديمقراطية وأن تُقام التماثيل لتخليد أبطالنا، وليس لتمجيد بوتين أو كاثرين أو ستالين”.

لا إلغاء للثقافة الروسية في أوديسا

تحت بضع رقاقات ثلجية صباحية، يمكث تمثال كاثرين العظمية منذ أكثر من شهر في صندوق خشبي، أمام متحف الفنون الجميلة في أوديسا. لا يوليه مديره أي اهتمام. ومع الهجوم الروسي على أوكرانيا في 24 فبراير/شباط 2022، أصبح تفكيك تمثال الإمبراطورة أمرا لا مناص منه، بالنسبة للموالين والمعادين للروس على حد سواء، حيث وحّد هذا الصراع كافة الأوكرانيين تقريبا ضد هذه الحرب الإمبريالية الجديدة التي تشنها روسيا.

يشرح كيريلو ليباتوف: “نحن لا نمحو أي شيء، بل فقط نضع تمثالا في المتحف”. يضيف مدير متحف المدينة: “أودع هذا النصب التذكاري هنا، بمتحف الفنون الجميلة. والآن، فإن المعهد الأوكراني للثقافة هو من سيقرر ما سيفعله به. حاليا، من المزمع أن يتم اختيار خمسة فنانين لعرض مشاريع تسمح بإعادة التفكير في هذا النصب من منظور ما بعد الاستعمار، ومن ثمة خلق شيء جديد”.

منذ بدء الهجوم الروسي، تشهد المتاحف في مختلف ربوع أوكرانيا تقريبا حالة من الاضطراب. ومع فريقه، أرسل ليباتوف قسما من مقتنيات المتحف إلى مكان آمن، بما في ذلك أعمال الفنانين الروس. وهو يستذكر ههنا: “لم يكن بالإمكان إخلاء الأعمال الفنية في متاحف أخرى جنوب أوكرانيا وشبه جزيرة القرم، وبالتالي فقد استولى عليها الروس”.

وكان ليباتوف قد باشر في عام 2021 فعليا بتخزين الفن السوفياتي الذي احتل جزءا كبيرا من المتحف بغرض توجيهه نحو معرض القطع المعاصرة، الموقع من قبل فنانين أوكرانيين. خطوة أولى في عملية “الاجتثاث” ومن أجل “أوكرنة” المجموعات الفنية، قبل أن يتم عرض الأعمال المستوحاة من المقاومة الأوكرانية للغزو الروسي الأخير.

وحين نسأله هل يتعلق الأمر بـ”تقليل أو اجتثاث التأثير الروسي” في متحف الفنون الجميلة، وهو ما ينتقده البعض، على اعتباره “إلغاء للثقافة”، يرد المدير أنه بالنسبة له فإن “روسيا هي التي تمارس ثقافة الإلغاء الحقيقية (عبر إنكار وجود الأمة الأوكرانية). يقاوم متحف الفنون الجميلة في أوديسا من أجل الحفاظ على الأعمال الفنية في سياق هذه الحرب، والتي كان بعضها لفنانين روس، حتى ولو كانوا مرتبطين بالإمبريالية الروسية أو الفن السوفياتي الرسمي، ورغم أنها أعمال غير محايدة”.

وداعا للثقافة الروسية أم للإمبريالية الروسية؟

تسببت الحرب أيضا في تسريع عملية “اجتثاث التأثير الروسي” من رفوف المكتبات في أوديسا. تقول إيرينا بيريوكوفا مديرة المكتبة الوطنية العلمية في أوديسا: “لن يحظر أحد قراءة تولستوي أو ليرمونتوف أو بوشكين أو دوستويفسكي. روسيا هي التي تثني الأوكرانيين عن القراءة لهؤلاء المؤلفين لأنهم يمثلون ثقافة المعتدي”. وهي تضيف: “لقد درسنا مطولا هؤلاء المؤلفين خلال تعليمنا. نريد اليوم اكتشاف مؤلفين آخرين. يجب أن يعرف الناس ثروات الأدب العالمي. إنها مسألة توازن. نحن لا نحظر أي شيء، نريد أن تنفتح العقليات على أمور أخرى”.

وعلى غرار العديد من المباني التاريخية في أوديسا، كانت المكتبة التي بناها رعاة أثرياء في أوائل القرن العشرين، محصنة في بداية الهجوم الروسي قبل عام. لكن غرف القراءة باتت مهجورة ولا يأتيها الزوار إلا لاستعارة الكتب أو لإعادة شحن أجهزة الكمبيوتر المحمولة الخاصة بهم. تقول مديرتها إن نقص الكهرباء في المدينة منذ شهرين شجع على قراءة الكتب الورقية. وبالنسبة لها، فإن اقتراح أعمال من أوكرانيا ومن جميع أنحاء العالم هو أمر بديهي.

“بدأت عملية الاجتثاث في التسعينيات، من خلال إعادة تسمية شوارع معينة. نحن في مدينة لها ماض متعدد الثقافات ولكنها مغطاة بعلامات أيديولوجية ترتبط بروسيا. لقد تم بناء أوديسا من قبل الفرنسيين والألمان واليهود واليونانيين والإيطاليين والمولدوفيين، وكذا من قبل عشرات الجنسيات الأخرى، وهذه الذاكرة لا تحظى بالتمثيل المناسب. بينما نجد أن الثقافة الإمبراطورية الروسية ممثلة بشكل كبير جدا، يجب إيجاد توازن، هذا ما يجب تغييره”.

منذ 2014، أصبحت الحرب بين أوكرانيا وروسيا شيئا فشيئا شاملة. وبالموازاة مع المواجهة العسكرية، امتد الصراع إلى المجال الثقافي. بات يمكن أن يصطدم سكان أوديسا الذين لا يقاتلون في ساحات المعارك في دونباس أو في أي مكان آخر، حول مسألة الرجال العظماء أو الأدب. وبالنسبة لأرتاك، فإن تفكيك تمثال الإمبراطورة كاثرين هو انتصار، لأن “بوتين يشير إليه في خطاباته”. وبرفقة آخرين، يريد أرتاك الآن مهاجمة نصب الجنرالات السوفيات المنتشرة في ربوع المدينة.

بالنسبة لمدير متحف الفنون الجميلة، فهناك حاجة عاجلة إلى “تفكيك النصب التي تم إنشاؤها لأغراض دعائية من الأماكن العامة لنقلها إلى المتاحف، ما سيمنحها حياة أخرى”. هو يتشارك هذه الفكرة مع زميلته من المكتبات، التي تعتبر أن لا مكان لبقايا الشمولية أو الإمبريالية سوى في الأرشيف. وهي تقول: “لا يمكننا الترويج لثقافة أمة تقتل وتنهب وتغتصب بلادنا. أنظر إلى تأثير بعض الكتب في روسيا، هل هذا ما نريده لأطفالنا؟”.

النص الفرنسي: دافيد غورميزانو موفد فرانس24 إلى أوكرانيا | النص العربي: أمين زرواطي


مصدر الخبر

للمزيد Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى