آخر الأخبارأخبار دولية

ريبورتاج: في العاصمة الأوكرانية كييف… السكان يحبسون أنفاسهم تحت النيران الروسية

نشرت في: 15/03/2022 – 22:24

منذ عدة أيام، تقدمت القوات الروسية حتى ضواحي كييف، فيما تدور اشتباكات عنيفة يوميا بشمال المدينة على بعد حوالي 30 كيلومترا من مركزها. وبين الذهول والغضب والدموع، يعيش أولئك الذين لم يفروا من مدينة، تحولت لمنطقة أشباح، على إيقاع صفارات الإنذار ودوي المواجهات. فرانس24 انتقلت إلى كييف والتقت ببعض سكان العاصمة الأوكرانية.

“إنه علاجي” هكذا يتحدث يوري بودوروزني الذي وصل للتو إلى مسكنه -بعمارة ضخمة في جنوب كييف– عن إطلالته من على شرفة شقته في الطابق الثالث عشر، قبل أن يضيف: “آتي كل صباح لأرى ما إذا كان العلم الضخم الذي يرفرف فوق البنك المركزي وكذلك تمثال الوطن الأم، النصب التذكاري الشهير للمدينة، لا يزالان موجودين هناك”.

كل صباح يتأكد يوري من على شرفة شقته أن كييف لم تسقط © دافيد غورميزانو

منذ الهجوم الروسي على أوكرانيا في 24 فبراير/ شباط، يعيش هذا الأستاذ الجامعي، الذي تحول لمستشار في الاتصالات السياسية، وحيدا في شقته. زوجته وابنته سلكتا طريق المنفى. بعد لفيف في غرب أوكرانيا، ثم برلين، لجأتا إلى السويد حيث وفر لهما شخص سكنا.

بطبيعته المرحة، يواصل يوري سرد قصته بسرعة من دون توقف. لكن هذا الصباح، بدأت الدموع تنهمر على خديه. تحطمت حياته اليومية: في غضون أسبوعين فقط، انفصلت عنه ابنته البالغة من العمر 12 عاما وتعيش اليوم على بعد آلاف الكيلومترات من كييف. رغم أنه أمر سخيف وغير واقعي لكنها الحقيقة الجديدة التي يعيشها، ولم يتبق إلا أربع عائلات في الطوابق العشرين من العمارة التي يقطنها.

“الحرب طويلة” 

الالتحاق بعائلته ليس على جدول أعماله. مع تطبيق “قانون الحرب” في اليوم التالي للهجوم الروسي، لم يعد بإمكان الرجال الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و60 عاما مغادرة البلاد. يوري البالغ من العمر 48 سنة، يمكن استدعاؤه في أي لحظة من قبل قوات “الدفاع الإقليمي”، وهو فيلق للمقاتلين المتطوعين الذين يدافعون عن البلاد. 

في مطبخه، يستعيد أنفاسه ليجيب بصوت قوي وواثق على أسئلة التلفزيون الأوكراني عبر سكايب. كخبير في الحياة السياسية، يكرر أن الحرب كانت حتمية بالنسبة لأي شخص يعرف كيف يفك رموز النوايا الحقيقية للرئيس الروسي. ويشرح: “ستكون الحرب طويلة لأن بوتين يكره الأوكرانيين. قتل الأوكرانيين هو ما يسميه ‘إزاحة النازيين‘. إنه يكذب ويتلاعب وما يريده حقا هو إقامة نظام موال لروسيا”. 

يوري أمام حاسوبه بشقته أثناء مشاركته في برنامج تلفزيوني. ويعيش وحيدا بعيدا عن زوجته وابنته اللتين توجدان في المنفى الاضطراري بالسويد بسبب الحرب الروسية على بلاده.

يوري أمام حاسوبه بشقته أثناء مشاركته في برنامج تلفزيوني. ويعيش وحيدا بعيدا عن زوجته وابنته اللتين توجدان في المنفى الاضطراري بالسويد بسبب الحرب الروسية على بلاده. © دافيد غورميزانو

وأثناء تحضيره وجبة طعام لحارس العمارة الذي لم يعد بإمكانه العودة إلى منزله، يواصل حديثه: “نحن نعرف كيف نقاوم الروس. لقد جئت من غرب أوكرانيا، وأتذكر قصص أجدادي الذين حاربوا الجيش الأحمر بعد فترة طويلة من نهاية الحرب العالمية الثانية، حتى عام 1953”.

أفرغت العمارة التي يقطنها يوري من قاطنيها. حسب عمدة كييف، نصف سكان العاصمة، البالغ عددهم 3،5 مليون نسمة، غادروا المدينة.

أفرغت العمارة التي يقطنها يوري من قاطنيها. حسب عمدة كييف، نصف سكان العاصمة، البالغ عددهم 3،5 مليون نسمة، غادروا المدينة. © دافيد غورميزانو

وكما أسلافه، يضع اليوم نفسه رهن إشارة جيش بلاده. ففي صباح بارد وجميل، يخبرنا يوري أنه يجب أن يذهب إلى مقر “الدفاع الإقليمي” الذي طلب منه القيام بـ “عمل إداري”. نعرض عليه نقله بسيارتنا، وقبل أن يفارقنا في وسط شارع ضخم بالعاصمة الأوكرانية الخالية تماما، يؤكد لنا أنه “طالما أننا هنا، فإن كييف ستقاوم”.

“الحب والغضب يمنحاني القوة لأحيا وأعيش”

في منطقة أخرى في جنوب كييف، ضربت ناتاليا معنا موعدا على بعد مئات الأمتار من منزلها. تسير الشابة نحونا وفي يدها عصا لرياضة الأيكيدو قبل أن تكشف لنا سرها: “لا يمكن أن تحميني من الصواريخ، ولكني أشعر بالهدوء عندما أحملها معي. أشعر بمزيد من الأمان، لأن لا أحد يعرف ما سيحدث غدا أو حتى في ثانية أو بعد دقيقة. إنه وضع صعب للغاية”.

لا تترك ناتاليا منزلها إلا للحصول على المؤونة، وغالبا ما تقوم بذلك مصحوبة بعصا أيكيدو "لطمأنة نفسها".

لا تترك ناتاليا منزلها إلا للحصول على المؤونة، وغالبا ما تقوم بذلك مصحوبة بعصا أيكيدو “لطمأنة نفسها”. © دافيد غورميزانو

نمشي خلفها بهذا الحي المكون من منازل فردية محاطة بحدائق. وعلى طول الطريق، قالت لنا إن شريك عمرها جندي منذ 3 سنوات وأنه يقاتل في ماريوبول، المدينة الواقعة في جنوب أوكرانيا. “أبعث له رسالة على تلغرام كل يوم ولكن منذ 9 أيام، لم يتصل. ليس لدي أخبار وأنا قلقة للغاية”.

ثم تأخذنا ناتاليا، التي عملت في شركة بالقطاع الزراعي، إلى ما تسميه “بيت النساء”. فهي تعيش مع والدتها، وجارة لا تتحمل أن تترك بمفردها، وقريبة للعائلة فقدت زوجها في قصف مطار كييف في اليوم الأول من الحرب وابنها ألكسندر.

تدعم النساء الأربع بعضهن البعض وينظمن أنفسهن لمواجهة الحياة اليومية التي جعلتها الحرب معقدة. “لدينا طعام وقبو ومياه للشرب وتدفئة وإنترنت وهاتف. ولدينا أيضا مخزون مائي. معظم المتاجر مغلقة، ولكن يوجد هنا في الحي سوبر ماركت يفتح من وقت لآخر. أشتري ما أجده حسب الأيام: الحليب، والجبن الطازج، واللحوم، والمعكرونة. لا نعرف أبدا مواعيد فتحه، وما الذي سنجده. أشتري أكثر مما نحتاج، لأن لا أحد يعرف ماذا سيحدث”.

قبل الحرب، عملت ناتاليا في القطاع الزراعي. منذ 9 أيام، لم تتلق أي أخبار عن رفيق عمرها، وهو جندي أوكراني يقاتل في معركة ماريوبول.

قبل الحرب، عملت ناتاليا في القطاع الزراعي. منذ 9 أيام، لم تتلق أي أخبار عن رفيق عمرها، وهو جندي أوكراني يقاتل في معركة ماريوبول. © دافيد غورميزانو

في الليل، ينزل الجميع إلى القبو المجهز للنوم والاستعداد لامتحان طويل، لأن لا أحد منهم يخطط في الوقت الحالي لمغادرة كييف. المدينة التي يبلغ عدد سكانها حوالي 3.5 مليون نسمة تم إفراغها من نصف سكانها، وفقا لرئيس بلديتها الملاكم السابق فيتالي كليتشكو.

تتحدث ناتاليا بهدوء وتصميم عن هذه الحياة اليومية المصنوعة من فواكه وخضروات حديقة منزلها، ولكن أيضا عن انتظار لا يطاق. “أشعر بشيئين، إنه مثل جناحين بالنسبة لي. حب وطني، وزوجي الذي يدافع عنا. وأيضا بالغضب. لا أفهم أن الجنود الروس والمواطنين الروس العاديين يسمحون بفعل ما يحصل. أمر غير إنساني. شعوران يمنحاني القوة لأحيا وأعيش”.

ناتاليا وابنها ألكسندر في قبو منزلهما حيث يقضيان لياليهما.

ناتاليا وابنها ألكسندر في قبو منزلهما حيث يقضيان لياليهما. © دافيد غورميزانو

 تبدو ناتاليا، البالغة من العمر 36 عاما، قوية وذات عزيمة. فبالإضافة إلى عصا أيكيدو الخاصة بها، تعرض أمامنا فأسا ومضرب بيسبول وضعته في مدخل المنزل. وسكين صيد تحمله على حزامها. لكنها لا تخفي أنها تشعر بقلق بالغ وشعور بالعزلة عند سماع دوي انفجارات بشكل دوري.

“لا نعرف إلى متى سنظل آمنين في كييف. لهذا السبب أقوم كل يوم بتنظيف كل شيء في المنزل. لأنني أعرف أنه غدا قد نفقد كليا الماء والكهرباء. نسمع انفجارات كل يوم. أنا هنا وليس في الجبهة، لأن لدي ابن عمره 8 سنوات وأم لا تستطيع تقريبا الحركة. ليس لدي خيار. وإلا كنت في المقدمة مع الرجال والنساء الذين يدافعون عن وطننا”.

في الشوارع الكبرى التي تنتشر بها نقاط المراقبة والمتاريس الإسمنتية، السيارات لا تتباطأ والمارة القلائل يقفون في طوابير أمام الصيدليات والمحلات التجارية التي لا تزال مفتوحة. واعترضت قوات الدفاع الجوي الأوكراني الإثنين صاروخا دمر جزئيا عمارة سكنية في حي أوبولون شمال المدينة، ما تسبب بمقتل شخصين. كل يوم، يسمع من بعيد دوي انفجارات قوية. كييف تحبس أنفاسها. 

 

نص: دافيد غورميزانو

نقله إلى العربية بتصرف: بوعلام غبشي


مصدر الخبر

للمزيد Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى